التخطي إلى المحتوى الرئيسي

نهوند أيلول

(رشا حلوة)

أيلول الخريفي، يرقصني هذا المساء، وسينتهي داخلي مثل كل عام. يخترق باب غرفتي بإرادتي، يمسك يديّ الباردتين قليلاً، يجرني مسرعًا إلى الباب، لا يأبه لذهول الحيطان وكل ما يتواجد هنا في البيت. أيلول خريفيّ الشكل أيضًا، وجهه يميل إلى برتقالية الصيف، ورمادية الشتاء. في كل زيارة لي يرتدي ثوبًا أبيض، فهو مزيج من المناسبات.
يُسرع خطواته باتجاه الغرب، تُقسم صخور الشاطئ ذاتها شهريًا وفقًا لعدد أيامه، ثلاثون صخرة منتصبة هنا. قرر أيلول بأنه سوف يرقص معي هذا المساء، هنا على صخوره. سنرقص سويًا على ترتيب الصخور. من الأولى، حتى انتهائه. كان أيلول يجيد كل أنواع الرقص، وعند التقاء اثنين، يُحبذ أي رقصة تُشكل اندماجًا موسيقيًا وجسديًا. بأمرٍ منه سُمعت موسيقى "التانغو"، موسيقى تمنح الراقصين متعة البحث عن الإحساس الملائم، والإرهاق الملازم. لم يكن أيلول غريبًا عني كباقي الأشهر، فأنا وُلدت فيه قبل أكثر من عقدين.
كان برقصته يرميني من صخرةٍ إلى أخرى، لم تكن جميع الصخور متشابهة، كان هنالك
صخرتان تعانقان الأسود، أسود الموت الغريب، على الأسود يبدو بقايا أحمر لم يجف بعد، حجم الصخرتين أكبر من حجم الصخور الأخرى، تبدو عليهما الكهولة. للصخرتين انعكاسات على السماء، صورٌ ألوانها قديمة. تقترب رقصتنا باتجاه الصخرة الأولى، يشدني أيلول إليها، فهي متواجدة في بداية الطابور الثالث منه، عمرها أربعة وعشرون عامًا. كان تبدو أكبر من ذلك بكثير. ربما الأسود المزمن، وقلة الألوان على وجهها يعطي شعورًا بالهرم. توقفت الموسيقى، وتركت يده. كانت على الصخرة أشلاء شمع قديم. يحيط الصخرة وردٌ قد جف، وأسماء عديدة ليست غريبة. أسماء تراكمت فوق بعضها البعض، وتراكم بينها ملح الأيام الكثيرة. كنت أعرفها ولا أعرفها، لا مكان للوقوف على هذه الصخرة، فهي ممتلئة بالتفاصيل والأحمر والأسماء. لم أرغب في الرقص بعد، قررت عندها أن "التانغو" موسيقى غامضة، لن أرهق نفسي بالبحث عن مخرج لمتاهة مشاعري بعد اليوم عندما يرقصني أيلول مرة أخرى.
بين صخرة وصخرة يقف برهةً، يتفقد صمتي وتأملي، علني أجد شيئًا يستحق التأمل ولم يخطر على بال أيلول بعد. لكني اكتفيت بالأشياء الواضحة حتى الآن. لم يتحمل البحر فراغ الصمت ونحن نمشي بين الصخور، وبعد أن شعرنا بأن "التانغو" لم يُحتو داخل مزاجنا، فقد قسم البحر صوته إلى نهوند.
مشينا حتى الطابور الأخير، في نهايته صخرة صغيرة، ولدتْ قبل قليل. لكنها كانت تبدو وكأنها تحمل البحر على كتفيها. الأسود كان يبدو جديد الظهور. بجانب الأسود كانت بقعة بيضاء كبيرة نسبيًا، الأحمر يتراوح بين اللونين، يخلطهما في بعض المواضع. ورود، شموع، وأسماء. أسماء تراكمت فوقها طبقات ملحية شفافة، وأسماء تزداد أثناء وقوفنا أمامها.
يقف أيلول بجانبي هادئًا ومصغيًا لموسيقى الموج، يبدو وكأن هذه الصخرة لم تنته من إتعابه، لا يزال يعتني بها يوميًا، يضع عليها باقات الورود التي تصله، يزيل الشمع الذائب، يرتب الأسماء حتى لا تختلط وتمحي بعضها البعض، ويحافظ على البقعة البيضاء.
أثناء صمت أيلول، أدرت وجهي إلى الخلف، إلى صخرة تجاور الصخرة التي لا يزال أيلول يتأملها، لاحظ تحركاتي باتجاه الخلف، ابتسم فجأة، كانت ابتسامته ضرورية. فهو يعلم ما يبعثر داخلي من فوضى. كان النهوند خلفية لاصطدام أقطاب المشاعر ببعضها البعض. هكذا نحن، نولد ونموت في الأيام ذاتها. لا تعني لنا الأيام التي ولدنا فيها، بقدر ما تعني لنا الأيام التي ولدنا منها.
شعر أيلول بأني أغرق في ذاتي، ونهوند الموج يساعد في تهيئة الجو. بإشارة من يده اليسرى للبحر، اعتقدَ بأني لم أرها، أوقف الموسيقى. هدأ الموج قليلاً، كانت صورتنا أنا وهو على الصخرة تحت ستارة السماء السوداء، وخلفنا أوركسترا الأمواج تعزف وقفًا لمزاجنا، أشبه بلوحةٍ سيبحث عن سرها الفنانون بعد ألف عامٍ. حملني أيلول من على الصخرةِ، كانت إشارة منه للموج بأن يعزف موسيقى ترقصنا قليلاً. أصبح خريفيّ الشكل أكثر، ملامحه تكاد تذهب كلما اقترب انتهاؤه، وصلنا الى حافة الصخرة الأخيرة منه والتي ترتبط بالرمل، نزل قبلي عنها، أمسك بيدي ليساعدني على النزول منه، واختفى. أدرت وجهي إلى الخلف أبحث عنه، ازداد عدد الصخور صخرةً واحدةً، ومن بينها كانت أربعة صخور بارزة لتشرين الأول..
(عكا 23.9.06)

تعليقات

  1. كل ايلول وانت بخير
    عقبال ال 120 يا رشا


    مع تمنياتي بحياة أجمل وأجمل
    kamli

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

عن "البحر بيضحك ليه؟" ومراحل الحياة..

عكّا، بعدسة: نادر هواري أغنية "البحر بيضحك ليه"، من كلمات الشّاعر نجيب سرور، ألحان وغناء الشّيخ إمام عيسى، هي الأغنية الملائمة لكلّ مراحل الحياة. لا يهم المرحلة إنّ كانت سعيدة أو حزينة، فيها أمل أو خيبة، قلق أو راحة، كلما سمعتها تشعر بأنها تُغنى لك. تحكي معك.. الأغنية لا علاقة لها لمن يعرف البحر أو لا يعرفه، سواء كان البحر قريبًا أو وبعيدًا.. هي قادرة أن تحمل لك مشاهد بصريّة مختلفة كلما سمعتها، تحمل معها وجوهًا عديدة وذكريات.. وكأنك كلما تسمعها تشعر بأن الزّمن توقف. لا يتحرك. كأن حالتك المرافقة لها حين سمعتها قبل 5 أعوام، مع ناس أو من غيرهم، تشبه حالتك حين تعيد سماعها اليوم، لوحدك أو مع آخرين.. والأجمل، بأنك تدرك تمامًا بأن حالتك هي، المرافقة لسماع الأغنية، تمامًا كما الملايين من عشاق الأغنية ذاتها. هي أغنية الطبطبة على الروح.. وحاملة المقولة الوجوديّة الأبديّة: ولسّه جوا القلب أمل.

أحد أطفال "كفرون"؛ يزن أتاسي: "نحنا ما منشبه بعض"

حاورته: رشا حلوة كان ذلك في العام 1990، حين قال له والده: "بدنا نروح مشوار"، لم يخبره إلى أين، "كنت رفيق أبي كتير وأنا وصغير، بروح معه على الشغل، وقالي رايحين مشوار، وبشكل طبيعي ركبنا بالسيارة، وصلنا على مكان قريب من مدرستي وفتنا على بناية، بكتشف بعد ما فتت إننا وصلنا على مكتب دريد لحّام"، يقول الفنان السوري يزن أتاسي في حوار خاص لمجلة "الحياة"، أجريناه عبر السكايب. ويزن أتاسي (1980) هو أيضاً "وسيم"، أحد الأطفال الذين مثلوا أدوار البطولة في فيلم "كفرون" لدريد لحّام، الذي سيتمحور معظم حديثنا عن تجربته فيه، التجربة الشخصية والفنّية لطفل في فيلم سوري، قبل 24 عاماً، كان لها أحد التأثيرات الكبرى على جيل كامل عاش طفولة التسعينيات. " هنالك معرفة بين دريد وأبي"، يقول يزن، "بس أنا انسطلت، لأنه أول مرة بحياتي بشوفه وجهاً لوجه، هني بحكوا وأنا مسحور لأني قاعد قدام غوار الطوشة!". بعدها خرجا من المكان، لا يذكر يزن الحديث الذي دار بين والده ودريد لحّام، ويعتقد أيضاً أنه كان قد قابل أخته نور أتاسي قبله، وهكذا وقع القرا

ريم بنّا.. التهليلة الفلسطينية الباقية

(رشا حلوة ) أذكر أني سمعت الفنانة الفلسطينية ريم بنّا لأول مرةٍ حين كان ربيعي يلامس العشرة أعوام، لا أعلم كيف وصل كاسيت "الحلم" إليّ، أو ربما لا أذكر. كان الوقت صيفًا في عكا، في غرفتي المطلة على البحر. أذكر بأني ناديت على أمي لتشاركني سماع الكاسيت، فسمعنا سويةً "يا ليل ما أطولك" وبكتْ أمي حين أخذتها التهليلة إلى كل الحنين الذي حملته معها منذ أن هُجّر أبوها من قريته الجليلية حتى ساعة انتظار العودة، التي طالت. ترتبط ريم بنّا في روحنا وذائقتنا بالتهليلة الفلسطينية والمورث الشعبي الفلسطيني. فهي أول من أعادت غناء وإحياء التهليلة الفلسطينية واحترفتها حتى يومنا هذا، بما في ذلك ضمن ألبومها الأخير "مواسم البنفسج- أغاني حُب من فلسطين"، والذي يحتوي على تهليلة "أمسى المسا"، المرفوعة إلى اللاجئين الفلسطينيين. بدأت ريم تهتم بالغناء التراثي الفلسطيني حين كانت لا تزال في المدرسة، يوم طُلب منها أن تحفظ أغاني تراثية لمهرجان تراثي في مدرستها، ونصحتها والدتها الشاعرة زهيرة صبّاغ أن تغني التهليلة الفلسطينية التي لم يغنّها أحد بعد. شعرتْ وقتئذٍ أن التهاليل تلائم صوتها