ميناء عكّا، في حبّ مصر |
قبل أيام قليلة، جلست برفقة أصدقاء في مقهى في القاهرة، وقع عليه الاختيار لأنه دافئ نسبيا. فالمصريون إجمالا يفضلون المقاهي الخارجية أكثر، لكن «طوبة» (اسم شهر في التقويم القبطي يأتي ما بين 9 كانون الثاني/ يناير و7 شباط/ فبراير)، هو أكثر الأشهر برداً وقدرة على منع الجلوس فيها.
في المقهى، كانوا يستعيدون قصة حدثت مع اثنين من الأصدقاء، لم تكن لي علاقة بها، ولكني سبق وتواجدت أثناء حصولها. بالإضافة إلى الضحك الهستيري الذي أصابنا جراء تذكرها، شعرت بفرحة ما ترقص في قلبي، كأنها تقول: «لست جزءاً من هذه الذكرى، وهي لا تحكي عني أثناء تواجدي في القاهرة، والأهم من ذلك تحدثنا عنها صدفة، ولكني أتذكرها تماماً، كما لو أني أعيش هنا كلّ يوم».
كأني أصبحت فجأة جزءاً من التفاصيل اليومية في هذه المدينة. صديقي إسلام يقول دائـماً حين يودعني وأنا عائدة إلى فلسطين: «إنتِ رايحة مـشوار وهاترجعي بسرعة». وأرد بالإيجاب طبعاً. فمنذ آذار/ مارس 2010 حتى يومنا هذا زرتها خـمس مرات، مع أني لا أعتقد أن «زرت» هي الكلمة المناسبة لوصف حالتي.
في المرة الأولى جئتها حين كنت في الحادية عشرة من عمري، برفقة عائلتي، وصارت لي ذكريات مشوهة من تلك الفترة، ما عدا النيل، الذي ما زال يحتفظ بكامل وضوحه في ذاكرتي.. تماما كما هو الآن.
عند شاطئ عكّا، وُلدت لأب عكّي وأم لاجئة من قرية إقرث المهجرة (قضاء عكّا) ومولودة في قرية الرامة الجليلية، فهي الرحم الأول لحبّ مــصر أيضــاً. لكن كلما كبرت، علـمت أنها ليـست قصـتي وحـدي. كان حبّ مصر يورث في العائلات الفلسطينية، وأتاح الإنترنت لنا في ما بعد التواصل مع أصدقاء مصريين، وبناء علاقات حقيقية امتدت سنوات عديدة، وازدادت حميمية وترسخت أكثر منذ أن بدأت الثورة المصرية.. المستمرة.
في إحدى ليالي آب/ أغسطس الماضي كنت قد شاهدت أمسية موسيقية لفرقة «إسكندريلا» في مسرح «الهانغر» في دار الأوبرا المصرية. عندها غنّت الفرقة أغاني عديدة تحكي مصر والثورات العربية وفلسطين. كنا أنا وصديقتيّ رشا وتحرير عند كلّ أغنية تقدم إلى فلسطين نطلق زغاريدنا في السماء، وكانت الزغاريد تصل إلى المنصة وتلتقي بالأغاني وهتافات الشباب المصريين في المكان، فتفتح شباكاً أرى منه فلسطين تقترب أكثر.
بالمناسبة، صديقتي رشا لبنانية. كان لقاؤنا الأول في عمان، ومن ثم لم نلتق إلا في القاهرة. في إحدى ليالي لقاءاتنا التي تكررت مرارا في المحروسة، كنا نمشي في حيّ «الزمالك» ونتحدث باللهجتين الفلسطينية واللبنانية. أثناء مرورنا بجانب دكان، سألنا البائع: «إنتو من فين؟». أجابته رشا بأنها من لبنان، وأجبته بأني من فلسطين، فإذا به يسألنا مبتسماً: «هو الموج كان عالي وجابكو لحد هنا؟».
كان على رشا أن تعود إلى بيروت. وكما في كل مرة، وهو وداع موجع. فرشا لا تستطيع أن تزور عكّا ولا يمكن لي أن أزور بيروت. هكذا كنا نلتقي في أم الدُنيا. كما التقيت بأمل وسمر في أيار/ مايو 2010، بعد صداقة بدأت إلكترونياً منذ 2006.
التقينا في باب المطار الخارجي. كان علـينا أن نتأكد أن ما يحصل هو حقيقة لا «حُلم ليلة صيف».. وكان علينا أن نغامر هكذا، أن نجرؤ السفر ونتحمل متاعب الحصول على تأشيرات دخول، وصعوبة اللقاء في القاهرة..
يكون الوداع موجعا، برغم ما يحمله من أسئلة طفولية، مثل: «ليش ما فيكو تيجوا معي على عكّا؟». ولماذا لا يخترع العالم القاسي حقيبة نخبئ فيها من نحب ونحملهم معنا في الطريق، من دون أن يكتشفنا من سرقوا الطرق قبل سنوات عديدة؟
سأعود وأنا على دراية بأني في كلّ مرة أغادر فيها القاهرة أترك خلفي «حتّة من قلبي»، فأعود على متن الطائرة بنصف قلب مثلاً. لكني سأشــفي جراحه حين أجلس عند شاطئ عكّا، وأنظـر غرباً باتجـاه الإسكندرية، وأنا على يقين بأنني سأكون يوماً ما مديرة لشركة القوارب المتنقلة ما بين ميناء عكّا والإسكــندرية، لا لشيء، فقط لأسمع المسـافرين أغـاني أحبّها، وأخبرهم كيف تتحقق الأحلام، ولأقول لهم «طوبى» لمن لعن سايكس بيكو، والمجد للثوار في كلّ مـكان.. من ميدان التحـرير إلى تعـز ودرعا وحـيّ الفـاخورة في عكّا.
(عكّا)
في المقهى، كانوا يستعيدون قصة حدثت مع اثنين من الأصدقاء، لم تكن لي علاقة بها، ولكني سبق وتواجدت أثناء حصولها. بالإضافة إلى الضحك الهستيري الذي أصابنا جراء تذكرها، شعرت بفرحة ما ترقص في قلبي، كأنها تقول: «لست جزءاً من هذه الذكرى، وهي لا تحكي عني أثناء تواجدي في القاهرة، والأهم من ذلك تحدثنا عنها صدفة، ولكني أتذكرها تماماً، كما لو أني أعيش هنا كلّ يوم».
كأني أصبحت فجأة جزءاً من التفاصيل اليومية في هذه المدينة. صديقي إسلام يقول دائـماً حين يودعني وأنا عائدة إلى فلسطين: «إنتِ رايحة مـشوار وهاترجعي بسرعة». وأرد بالإيجاب طبعاً. فمنذ آذار/ مارس 2010 حتى يومنا هذا زرتها خـمس مرات، مع أني لا أعتقد أن «زرت» هي الكلمة المناسبة لوصف حالتي.
في المرة الأولى جئتها حين كنت في الحادية عشرة من عمري، برفقة عائلتي، وصارت لي ذكريات مشوهة من تلك الفترة، ما عدا النيل، الذي ما زال يحتفظ بكامل وضوحه في ذاكرتي.. تماما كما هو الآن.
عند شاطئ عكّا، وُلدت لأب عكّي وأم لاجئة من قرية إقرث المهجرة (قضاء عكّا) ومولودة في قرية الرامة الجليلية، فهي الرحم الأول لحبّ مــصر أيضــاً. لكن كلما كبرت، علـمت أنها ليـست قصـتي وحـدي. كان حبّ مصر يورث في العائلات الفلسطينية، وأتاح الإنترنت لنا في ما بعد التواصل مع أصدقاء مصريين، وبناء علاقات حقيقية امتدت سنوات عديدة، وازدادت حميمية وترسخت أكثر منذ أن بدأت الثورة المصرية.. المستمرة.
في إحدى ليالي آب/ أغسطس الماضي كنت قد شاهدت أمسية موسيقية لفرقة «إسكندريلا» في مسرح «الهانغر» في دار الأوبرا المصرية. عندها غنّت الفرقة أغاني عديدة تحكي مصر والثورات العربية وفلسطين. كنا أنا وصديقتيّ رشا وتحرير عند كلّ أغنية تقدم إلى فلسطين نطلق زغاريدنا في السماء، وكانت الزغاريد تصل إلى المنصة وتلتقي بالأغاني وهتافات الشباب المصريين في المكان، فتفتح شباكاً أرى منه فلسطين تقترب أكثر.
بالمناسبة، صديقتي رشا لبنانية. كان لقاؤنا الأول في عمان، ومن ثم لم نلتق إلا في القاهرة. في إحدى ليالي لقاءاتنا التي تكررت مرارا في المحروسة، كنا نمشي في حيّ «الزمالك» ونتحدث باللهجتين الفلسطينية واللبنانية. أثناء مرورنا بجانب دكان، سألنا البائع: «إنتو من فين؟». أجابته رشا بأنها من لبنان، وأجبته بأني من فلسطين، فإذا به يسألنا مبتسماً: «هو الموج كان عالي وجابكو لحد هنا؟».
كان على رشا أن تعود إلى بيروت. وكما في كل مرة، وهو وداع موجع. فرشا لا تستطيع أن تزور عكّا ولا يمكن لي أن أزور بيروت. هكذا كنا نلتقي في أم الدُنيا. كما التقيت بأمل وسمر في أيار/ مايو 2010، بعد صداقة بدأت إلكترونياً منذ 2006.
التقينا في باب المطار الخارجي. كان علـينا أن نتأكد أن ما يحصل هو حقيقة لا «حُلم ليلة صيف».. وكان علينا أن نغامر هكذا، أن نجرؤ السفر ونتحمل متاعب الحصول على تأشيرات دخول، وصعوبة اللقاء في القاهرة..
يكون الوداع موجعا، برغم ما يحمله من أسئلة طفولية، مثل: «ليش ما فيكو تيجوا معي على عكّا؟». ولماذا لا يخترع العالم القاسي حقيبة نخبئ فيها من نحب ونحملهم معنا في الطريق، من دون أن يكتشفنا من سرقوا الطرق قبل سنوات عديدة؟
سأعود وأنا على دراية بأني في كلّ مرة أغادر فيها القاهرة أترك خلفي «حتّة من قلبي»، فأعود على متن الطائرة بنصف قلب مثلاً. لكني سأشــفي جراحه حين أجلس عند شاطئ عكّا، وأنظـر غرباً باتجـاه الإسكندرية، وأنا على يقين بأنني سأكون يوماً ما مديرة لشركة القوارب المتنقلة ما بين ميناء عكّا والإسكــندرية، لا لشيء، فقط لأسمع المسـافرين أغـاني أحبّها، وأخبرهم كيف تتحقق الأحلام، ولأقول لهم «طوبى» لمن لعن سايكس بيكو، والمجد للثوار في كلّ مـكان.. من ميدان التحـرير إلى تعـز ودرعا وحـيّ الفـاخورة في عكّا.
(عكّا)
تعليقات
إرسال تعليق