التخطي إلى المحتوى الرئيسي

تحليل الدم




مرة كلّ ستة شهور، حين أُذكّرها أو تتذكر هي وحدها، تأتيني عند السابعة صباحاً، حاملة في يدها "معدات تحليل الدم"، يكون بعض من الضوء قد دخل غرفتي أو تكون مظلمة تماماً، في حال كنت قد قررت قبل أن أنام أن لا توقظني الشمس. تجلس على السرير بجانبي، ولا زالت عيناي مغمضة، وتمسك يدي اليسرى وتحاول أن تبحث عن شريان يكون ضحية إبرة هذه المرة. حين تجده، تضع شريطاً فوقه وتطلب مني أن أقبض بشدة على كفّ يدي، وتُدخل الإبرة لتُخرج ما تحتاجه الفحوصات المتعددة من دم؛ حديد، ضعف دم، الكبد، الكلية، السكري، إلخ..
كلّ المسألة لا تأخذ أكثر من 3 دقائق منذ لحظة دخول والدتي (وهي ممرضة) إلى غرفتي. ولكن منذ صغري، إعتدت أن تمرّ العملية وعيناي مغلقة. لا أحبّ أن أرى دمي يخرج من جسدي من خلال إبرة صغيرة وحقيرة. وحين كنت أصغر سناً، كنت أضع الجهة اليمنى من وجهي على الوسادة وأغلق بيدي اليُمنى أذني اليُسرى، وكأن للدم الخارج مني صوتاً أخاف أن أسمعه.
تذهب أمي للعمل في العيادة الطبية. وتُرسل دمي مع زجاجات عديدة إلى المختبر. وفي اليوم التالي، تبدأ أسئلتي عن نتيجة هذه الفحوصات. وكأني أنتظر خبراً سيئاً كلّ الوقت. لكني مؤخراً، وبعدما اجتزت الخامسة والعشرين من عمري، لم أعد أستفسر عن النتائج. صرت أنتظر بلاغها الذي يأتي عادة خلال محادثة عادية عبر الهاتف تطمئن فيها على حالي، أو حين نشرب كأس شاي بعد وجبة الغذاء.
قبل أسبوع كُنت أنا التي طلبت منها أن تجري لي تحليل الدم. لا أدري لماذا. هكذا، لربما رغبة مني أن أجعلها تشعر بإهتمامي الدائم للموضوع، أو بي رغبة خفية لأتأكد بأن "كلّ شيء على ما يُرام" (وكأن لدى الدم تلك المصادر العميقة والموثوق منها التي تؤكد لي بأن الأمور جيدة). وبالأمس، وكالمعتاد، دخلت أمي عند السابعة صباحاً، أيقظتني، وبدأت مهتمها التي تمت بنجاح. وقبل أن تذهب، وضعت قطعة من القطن فوق المكان الذي أدخلت من خلاله الإبرة، ومن ثم أحضرت لي كأساً من الماء، وعدتُ إلى النوم بسلام.
كلمتني عبر الهاتف قبل قليل، سألتني عن حالي واطمئنت كعادتها. ومن ثم أخبرتني أن نتائج تحليل الدم كلّها على ما يُرام. وبأنها "زي الفلّ". وعلى الفور، أعطاها صوتي الشعور بأني:"طبعا، كنت عارفة". لكني شردتُ للحظات وهي مستمرة بالحديث.. وقبل أن تغلق سماعة الهاتف، كانت بي رغبة أن أسألها (ولم أسألها بالطبع):"أمي، الدم ليس فقط عاملاً جسدياً بيولوجياً تافهاً لا يمت بصلة للروح.. صحيح؟".. يعني.."أنا بخير، أنا بخير".


تعليقات

  1. ما هي الا قطرات دم .. تعطي الامان لام قلبها يحنو و يعطف .. ابقاك لها و ابقاها لك ..
    توصيف الصحوة و وصف الشمس خلاب :)

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

عن "البحر بيضحك ليه؟" ومراحل الحياة..

عكّا، بعدسة: نادر هواري أغنية "البحر بيضحك ليه"، من كلمات الشّاعر نجيب سرور، ألحان وغناء الشّيخ إمام عيسى، هي الأغنية الملائمة لكلّ مراحل الحياة. لا يهم المرحلة إنّ كانت سعيدة أو حزينة، فيها أمل أو خيبة، قلق أو راحة، كلما سمعتها تشعر بأنها تُغنى لك. تحكي معك.. الأغنية لا علاقة لها لمن يعرف البحر أو لا يعرفه، سواء كان البحر قريبًا أو وبعيدًا.. هي قادرة أن تحمل لك مشاهد بصريّة مختلفة كلما سمعتها، تحمل معها وجوهًا عديدة وذكريات.. وكأنك كلما تسمعها تشعر بأن الزّمن توقف. لا يتحرك. كأن حالتك المرافقة لها حين سمعتها قبل 5 أعوام، مع ناس أو من غيرهم، تشبه حالتك حين تعيد سماعها اليوم، لوحدك أو مع آخرين.. والأجمل، بأنك تدرك تمامًا بأن حالتك هي، المرافقة لسماع الأغنية، تمامًا كما الملايين من عشاق الأغنية ذاتها. هي أغنية الطبطبة على الروح.. وحاملة المقولة الوجوديّة الأبديّة: ولسّه جوا القلب أمل.

أحد أطفال "كفرون"؛ يزن أتاسي: "نحنا ما منشبه بعض"

حاورته: رشا حلوة كان ذلك في العام 1990، حين قال له والده: "بدنا نروح مشوار"، لم يخبره إلى أين، "كنت رفيق أبي كتير وأنا وصغير، بروح معه على الشغل، وقالي رايحين مشوار، وبشكل طبيعي ركبنا بالسيارة، وصلنا على مكان قريب من مدرستي وفتنا على بناية، بكتشف بعد ما فتت إننا وصلنا على مكتب دريد لحّام"، يقول الفنان السوري يزن أتاسي في حوار خاص لمجلة "الحياة"، أجريناه عبر السكايب. ويزن أتاسي (1980) هو أيضاً "وسيم"، أحد الأطفال الذين مثلوا أدوار البطولة في فيلم "كفرون" لدريد لحّام، الذي سيتمحور معظم حديثنا عن تجربته فيه، التجربة الشخصية والفنّية لطفل في فيلم سوري، قبل 24 عاماً، كان لها أحد التأثيرات الكبرى على جيل كامل عاش طفولة التسعينيات. " هنالك معرفة بين دريد وأبي"، يقول يزن، "بس أنا انسطلت، لأنه أول مرة بحياتي بشوفه وجهاً لوجه، هني بحكوا وأنا مسحور لأني قاعد قدام غوار الطوشة!". بعدها خرجا من المكان، لا يذكر يزن الحديث الذي دار بين والده ودريد لحّام، ويعتقد أيضاً أنه كان قد قابل أخته نور أتاسي قبله، وهكذا وقع القرا

ريم بنّا.. التهليلة الفلسطينية الباقية

(رشا حلوة ) أذكر أني سمعت الفنانة الفلسطينية ريم بنّا لأول مرةٍ حين كان ربيعي يلامس العشرة أعوام، لا أعلم كيف وصل كاسيت "الحلم" إليّ، أو ربما لا أذكر. كان الوقت صيفًا في عكا، في غرفتي المطلة على البحر. أذكر بأني ناديت على أمي لتشاركني سماع الكاسيت، فسمعنا سويةً "يا ليل ما أطولك" وبكتْ أمي حين أخذتها التهليلة إلى كل الحنين الذي حملته معها منذ أن هُجّر أبوها من قريته الجليلية حتى ساعة انتظار العودة، التي طالت. ترتبط ريم بنّا في روحنا وذائقتنا بالتهليلة الفلسطينية والمورث الشعبي الفلسطيني. فهي أول من أعادت غناء وإحياء التهليلة الفلسطينية واحترفتها حتى يومنا هذا، بما في ذلك ضمن ألبومها الأخير "مواسم البنفسج- أغاني حُب من فلسطين"، والذي يحتوي على تهليلة "أمسى المسا"، المرفوعة إلى اللاجئين الفلسطينيين. بدأت ريم تهتم بالغناء التراثي الفلسطيني حين كانت لا تزال في المدرسة، يوم طُلب منها أن تحفظ أغاني تراثية لمهرجان تراثي في مدرستها، ونصحتها والدتها الشاعرة زهيرة صبّاغ أن تغني التهليلة الفلسطينية التي لم يغنّها أحد بعد. شعرتْ وقتئذٍ أن التهاليل تلائم صوتها