التخطي إلى المحتوى الرئيسي

تونسي (الحلقة الأولى)



لم أعرف ماذا سأكتب عنها. وفي كلّ مرة أردت أن أبدأ بالكتابة، كنت أشعر أن المهمة باتت أصعب. قبل أيام قليلة، وبلا سبب واضح، فتحت موقع "اليوتيوب" وبحثت عن الفيديو الذي يوثق الرجل الذي صرخ على مدار 3 دقائق في شارع "الحبيب بورقيبة" مونولغاً عن الحرية أجمل من أي نصٍ مسرحي حقيقي كُتب. كأنه صرخ كلّ الأصوات التي عاشتنا في 14 يناير (جانفي) 2011؛ "إتحررنا".

لربما كان السبب الذي حرك رغبتي بأن أشاهد الفيديو بعد غياب طويل عنه هو البحث عن معالم شارع عرفته، وكأني أردت أن أتأكد بأني الآن أعرف أين أطلقت الصرخة. كان هذا الرجل العظيم يصرخ في شارع "الحبيب بورقيبة" وأمام "نزل الهناء"، النزل الذي فوق سطوحه يتواجد البار الأول الذي سهرت فيه حين وصلت يوم الأحد السابع من تموز (يوليو) إلى تونس، والذي يطلّ على المدينة التي أتقنت الإستقبال. 

زيارة إلى البيت
لم يهمني يوماً أنا أمارس السياحة التقليدية في بلد أزوره لأول مرة، أخاف دائماً على العلاقة الأولى التي أبنيها مع المدينة، وأؤمن بأن للمدن طريقتها الخاصة بإستقبال الزائرين.. بلا تخطيط مسبق. كان ولا زال هاجسي الدائم أن أكسر هذا الحاجز الذي فُرض عليّ، علينا، على الطبيعية البشرية الأولى؛ أن الأرض هي مكان بلا حدود.. ولنا القدرة على التنقل فيها كيفما ومتى نشاء. أنا لست بسائحة في تونس ولا في أي مكان آخر. "أنا إبنة هذه الأرض". بلا أن تحمل هذه الجملة من معانٍ رومانسية مبتذلة. ببساطة فكرة أنه لو لم يكن هنالك احتلال، كان بإمكاني مثلاً أن اختار دراستي لتكون في تونس وأقرر فيما بعد أن أستقر بها. لماذا تأخرت في زيارتها؟ أو لا أحبّ كلمة "زيارة". بلّ لماذا تأخرت في أن أعيش تفاصيلها اليومية على مدار ثلاثة أسابيع مكثفة؟

اعتمدت سياحة الأصدقاء. واعتمدت تلقائية برامجهم اليومية لتحتويني. فأصبحت الشوارع مألوفة، وأصبحت قادرة على الوصف لسائق التاكسي كيف يصل إلى عنوان ما. وكم من الوقت ستأخذ المسافة ما بين وسط المدينة في تونس العاصمة وبين المرسى. وأحياناً لم أحتاج إلى تاكسي كي أصل إلى مكان مقصود، فدروس الحبّ المكثفة لمدينة ما تتضاعف حين تتأملها مشياً على الأقدام.

عن شبه الأغاني
في إحدى الليالي، كنا نجلس أنا وصديقين في بار JFK، أحد البارات الأولى التي زرتها واعتمدت زيارتها بإستمرار، هو مكان صغير ومظلم قليلاً، لكن هو من تلك الأمكنة التي حين تدخل إليها لأول مرة ترى وجوهاً وتسمع موسيقى وتشم رائحة تعرفها تماماً. هو من تلك الأمكنة التي تشبه بارك المفضل في حيفا، لربما سئمت من التوافد إليه بإستمرار، لكن كيف نهرب من "البيت"؟ في تلك الليلة كان أحدهما، مروان، يغني لنا أغاني الشيخ إمام ومن ثم سيد درويش ونغني معه، لتثبت لي تونس من جديد شبهها في فلسطين، لا على مستوى التضاريس والبحر والأكل فقط، بل أيضاً على مستوى الأغاني التي تُغنى بأصوات لا شرط أن تكون جميلة، لكنها تُغنى في البارات، بلا أن يأتي النادل ويطلب منا أن نخفض أصواتنا، كلّ شيء متاح في جمهورياتنا الصغيرة التي نختارها ونحبها. في ليلة أخرى، كنا نجلس مجموعة أكبر من الأصدقاء، نغني أنا وصديق فلسطيني من غزة ويعيش في تونس أغاني التراث الفلسطيني والتي تحتوي على حوار مع "الله"، عندها فجأة بدأ صديقي السوداني طلال بغناء أغنية "يا حرام الكفار" للموسيقي الفلسطيني  الشاب، إبن الناصرة، جوان صفدي. فجأة نظرت إليه بإستغراب:"ربّك! كيف وصلت هذه الأغنية من وسط حيفا إلى السودان؟".. لا أجوبة على أسئلة كثيرة، هي فقط "روح العالم".


التفاصيل
في أحد بيوت الأصدقاء، وبعد وجبة العشاء وزجاجة بوخة تونسية، قررنا أن نسمع الموسيقى، وكانت اللعبة كذلك: كلّ منا بإمكانه أن يضع أغنية وحدة وحين تنتهي يأتي الآخر ويضع أغنية ثانية، الساعة تدور – والأرض كذلك- ونحن نسمع الموسيقى ونرقص. حين وصلت القائمة إلى أغاني المزود التونسية، قرر الأصدقاء أن يعطونا – أنا وصديقتي السورية- دروس في رقص المزود التونسي. هي معادلة المنطقة إذاً. الرغبة بالرقص وإتقانه تماماً. في منتصف الدروس التلقائية رنّ هاتفي، عند الساعة الحادية عشر ليلاً، كانت صديقتي بديعة على الخط الثاني:"خيام وصل تونس من لندن". خيام صديقنا العراقي والمقيم في لندن يصل تونس. نعم كهذا، هو منطق لا يفهمه أحد إلا الصداقة، حين يجتمع الأصدقاء من كلّ أنحاء الأرض في مكان واحد بلا مواعيد مسبقة. فتُصبح المدن أجمل.

وتصبح المدن أجمل حين ممارسة تفاصيل الحياة بأكملها فيها، في المدن التي نزورها للمرة الأولى لا يكون عادة مكان للحزن، لكن حين تصبحين "إبنة المدينة" تماماً، لتتأكدي أن حاجز السائحة قد إنكسر منذ اللحظة الأولى، يحدث هذا حين تكونين حزينة. لا لأنك ستودعينها بعد أيام، بل لأن الحزن وجد مكاناً مريحاً إضافياً يفرش سجاده عليه.. ويؤكد لك بأنك "لست مسافرة".
يُتبع..




تعليقات

  1. وصفك جعل تونس أقرب قليلاُ لخيالي...
    أنتظر يوم زيارتي لها !

    ردحذف
  2. كلماتك تغزل الحرير , عطمة على عظمة يا فلسطنية , تونس لنا و لكم

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

عن "البحر بيضحك ليه؟" ومراحل الحياة..

عكّا، بعدسة: نادر هواري أغنية "البحر بيضحك ليه"، من كلمات الشّاعر نجيب سرور، ألحان وغناء الشّيخ إمام عيسى، هي الأغنية الملائمة لكلّ مراحل الحياة. لا يهم المرحلة إنّ كانت سعيدة أو حزينة، فيها أمل أو خيبة، قلق أو راحة، كلما سمعتها تشعر بأنها تُغنى لك. تحكي معك.. الأغنية لا علاقة لها لمن يعرف البحر أو لا يعرفه، سواء كان البحر قريبًا أو وبعيدًا.. هي قادرة أن تحمل لك مشاهد بصريّة مختلفة كلما سمعتها، تحمل معها وجوهًا عديدة وذكريات.. وكأنك كلما تسمعها تشعر بأن الزّمن توقف. لا يتحرك. كأن حالتك المرافقة لها حين سمعتها قبل 5 أعوام، مع ناس أو من غيرهم، تشبه حالتك حين تعيد سماعها اليوم، لوحدك أو مع آخرين.. والأجمل، بأنك تدرك تمامًا بأن حالتك هي، المرافقة لسماع الأغنية، تمامًا كما الملايين من عشاق الأغنية ذاتها. هي أغنية الطبطبة على الروح.. وحاملة المقولة الوجوديّة الأبديّة: ولسّه جوا القلب أمل.

أحد أطفال "كفرون"؛ يزن أتاسي: "نحنا ما منشبه بعض"

حاورته: رشا حلوة كان ذلك في العام 1990، حين قال له والده: "بدنا نروح مشوار"، لم يخبره إلى أين، "كنت رفيق أبي كتير وأنا وصغير، بروح معه على الشغل، وقالي رايحين مشوار، وبشكل طبيعي ركبنا بالسيارة، وصلنا على مكان قريب من مدرستي وفتنا على بناية، بكتشف بعد ما فتت إننا وصلنا على مكتب دريد لحّام"، يقول الفنان السوري يزن أتاسي في حوار خاص لمجلة "الحياة"، أجريناه عبر السكايب. ويزن أتاسي (1980) هو أيضاً "وسيم"، أحد الأطفال الذين مثلوا أدوار البطولة في فيلم "كفرون" لدريد لحّام، الذي سيتمحور معظم حديثنا عن تجربته فيه، التجربة الشخصية والفنّية لطفل في فيلم سوري، قبل 24 عاماً، كان لها أحد التأثيرات الكبرى على جيل كامل عاش طفولة التسعينيات. " هنالك معرفة بين دريد وأبي"، يقول يزن، "بس أنا انسطلت، لأنه أول مرة بحياتي بشوفه وجهاً لوجه، هني بحكوا وأنا مسحور لأني قاعد قدام غوار الطوشة!". بعدها خرجا من المكان، لا يذكر يزن الحديث الذي دار بين والده ودريد لحّام، ويعتقد أيضاً أنه كان قد قابل أخته نور أتاسي قبله، وهكذا وقع القرا

ريم بنّا.. التهليلة الفلسطينية الباقية

(رشا حلوة ) أذكر أني سمعت الفنانة الفلسطينية ريم بنّا لأول مرةٍ حين كان ربيعي يلامس العشرة أعوام، لا أعلم كيف وصل كاسيت "الحلم" إليّ، أو ربما لا أذكر. كان الوقت صيفًا في عكا، في غرفتي المطلة على البحر. أذكر بأني ناديت على أمي لتشاركني سماع الكاسيت، فسمعنا سويةً "يا ليل ما أطولك" وبكتْ أمي حين أخذتها التهليلة إلى كل الحنين الذي حملته معها منذ أن هُجّر أبوها من قريته الجليلية حتى ساعة انتظار العودة، التي طالت. ترتبط ريم بنّا في روحنا وذائقتنا بالتهليلة الفلسطينية والمورث الشعبي الفلسطيني. فهي أول من أعادت غناء وإحياء التهليلة الفلسطينية واحترفتها حتى يومنا هذا، بما في ذلك ضمن ألبومها الأخير "مواسم البنفسج- أغاني حُب من فلسطين"، والذي يحتوي على تهليلة "أمسى المسا"، المرفوعة إلى اللاجئين الفلسطينيين. بدأت ريم تهتم بالغناء التراثي الفلسطيني حين كانت لا تزال في المدرسة، يوم طُلب منها أن تحفظ أغاني تراثية لمهرجان تراثي في مدرستها، ونصحتها والدتها الشاعرة زهيرة صبّاغ أن تغني التهليلة الفلسطينية التي لم يغنّها أحد بعد. شعرتْ وقتئذٍ أن التهاليل تلائم صوتها