التخطي إلى المحتوى الرئيسي

حيّ اليوتوبيا


بعدسة: طلال ناير 


منذ أن عدت من "لقاء نسيج الإقليمي للإعلام المجتمعي وأدوات التعليم البديلة" في شرم الشيخ وأنا على رغبة بأن أكتب نصاً ما، ولو كان قصيراً. الأمر تأجل مراراً، لأسباب لا إرادية، فعادة حين تأتيني رغبة الكتابة، أنفذها على الفور، خوفاً على زوال لهفتي بكتابة نصٍ ما حين يمرّ وقتاً طويلاً على التجربة. لكن، نحن في عصر تكسير النظريات. وتباً للقواعد الموروثة.

المهم، كنت قد انطلقت قبل المؤتمر بيوم واحد من عكّا صباحاً باتجاه عمان ومن ثم مطار عمان ومن ثم إلى شرم الشيخ، وكنت بمثابة من تصلح عليها المقولة:"أفطرت في عكّا، تغديت في عمان وتعيشت في شرم الشيخ". أعلم بأني أكرر هذه الجملة كثيراً، لا لشيء، بل لأن تطبيقها يشكل مساحة آمنة تؤكد مقدرتنا على حصر الاحتلال في زاوية ضيقة - ولو مؤقتاً-  كفرصة الإلتقاء بأربعين شابة وشاباً من الوطن العربي في مكان واحد وعلى مدار 4 أيام يشكلون مشهداً سينمائياً لم أكن أتخيل – أنا الفلسطينية إبنة عكّا المحتلة عام 1948- أن أعيشه يوماً.

لم أستطع حتى الآن أن أكتب تقريراً صحافياً عن ما حصل في تلك الأيام، كرصد أو كتوثيق لتفاصيل لقاء لربما كان هدف كلّ من المؤسسة المنظمة والداعية "نسيج" بالتعاون مع "أضف" في القاهرة و "حراك" في بيروت منه أبعد من تقديم الندوات والمحاور المتنوعة والمهمة، كان هدفهم هو أن نلتقي. هكذا بكلّ بساطة من جهة وبصعوبة من جهة أخرى. ببساطة فكرة الإلتقاء بمن يشكلون جزءاً من جسدك وهذا في حال كنا نعيش في واقع "طبيعي" وصعوبة  أن تختار مكاناً واحداً يكون بمثابة الأسهل للجميع الوصول إليه، لا يحتاج لسيرورة طويلة من أجل إصدار تأشيرات الدخول، بما فيها من عذاب مستمر لكلّ مسافر عربي من وإلى بلد عربي ما. أحياناً أشعر أن إمكانية الإقامة في المريخ أسهل. فبالإذن من شاعرنا- فلتسقطوا عن كلنا جوازات السفر!

في محاضرة قصيرة ألقيتها قبل فترة في مدينة الناصرة حول الإعلام المجتمعي وما يحيطه من تفاصيل تحدثت عن صديق أخبرني ما يلي:"بعد قليل سوف يخفي الإنترنت الحدود الجغرافية بعد البشر". يا سلام! على الفور، وبعد أن أنهى جملته، أطلقت ضحكة عالية لسببين: الأول أنه لا زال يعتقد بأن موضوع الإنترنت وقدرته المحصورة بإخفاء الحدود لا زال قيد التنفيذ. والسبب الثاني، وسأقوله باللهجة الفلسطينية:"مين فارق معه الحدود!؟". بالنسبة لي، لن أعطي الاحتلال فرصة التفكير بأن مخططه نجح معي ولو للحظة. لي أصدقاء وصديقات يعيشون معي يوماً في عكّا. فليذهب سايكس بيكو إلى الجحيم.

كان يوم الأحد موجعاً. حين غادرت معظم المجموعات شرم الشيخ. كأن الفندق أصبح فارغاً تماماً، وخيل لي أن الاحتجاج على انتهاء اللقاء عمّ أرجاء الفندق كلّه بما في ذلك العمّال. فقد قاموا برمي القهوة وما تبقى من زجاجات ماء في البحر.. فمشروع إحضار زجاجة ماء أصبح من المستحيلات. كان موجعاً أن تسمع صمتاً في غرفة الطعام بدلاً عن حوارات الأغاني المستمرة بين المشاركين. ففي الليلة الأولى لعبنا لعبة الأغاني ومن ثم قدمنا وصلة لأغاني وردة – وماتت في اليوم الثاني – وأغاني ما بين الورشة والأخرى وعند المسبح وعند البحر ليلاً.. ياه، نحن شعوب تسرد قصصها بالأغاني.

كان ذلك ظهر يوم الأحد. وبعد أن غادرت الغالبية العظمى، اجتمعنا أنا وصديقتي السورية رانيا في جلسة تقييم غير منظمة – سنحدثكم عنها في لقائنا القادم- إلا أن جلّ ما دار الحديث حوله هو اختيار المشاركين من قبل المؤسسات المنظمة. كان الاختيار دقيق ومدروس ومميز حتى بما يتعلق بتوزيع المشاركين في الغرف، لدرجة أن هذا الاندماج الطبيعي لا يمكن إلا أن يكون بين أناس عاشوا أكثر من 20 سنة سويةً، ولا علاقة له بالكحول على فكرة.  لنا طباع متشابهة وأمزجة مجنونة وأحلام كأنها منسوخة من واحد إلى آخر.. نحب نفس الأغاني ونتشارك نفس الهموم حتى البسيطة منها.. لدرجة أني أكبر رانيا سناً بيوم واحد فقط! :)
أصدقائي وصديقاتي، لن أطيل الحديث عليكم وعليكن.. أردت فقط أن أشاركم القليل من أفكاري التي رافقتني منذ شرم الشيخ ولا زالت تعيش معي في عكّا، لا بل تنقذني. وأنا على دراية بأنها لا تختلف كثيراً عن ما يفكر كلّ منكم.
أريد فقد أن أنتهز الفرصة لأشكر كلّ من "نسيج" و"أضف" و"حراك" ولأشكر كلّ واحد وواحدة منكم على إنكم كنتم بمثابة إثبات قوي بأننا "في زمن الأحلام اللي بتتحقق". آملة أن يأتي اليوم الذي نعيش كلنا فيه في عكّا، في حيّ نبنيه كما نشاء ونطلق عليه إسم "حيّ اليوتوبيا"، تماماً كما الأيام القليلة التي عشناها في شرم الشيخ.
دمتم/ن لي.
كلّ الحبّ،
رشا حلوة
عكّا، فلسطين

تعليقات

  1. أزال المؤلف هذا التعليق.

    ردحذف
  2. رائع رشى بتعبر عن شعوري بكل لقاء بيجتمع فيه ناس من كل الدول المجاورة. كل كلمة وكل حرف بمحلها. وليذهب سايس بيكو الى الجحيم.

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

عن "البحر بيضحك ليه؟" ومراحل الحياة..

عكّا، بعدسة: نادر هواري أغنية "البحر بيضحك ليه"، من كلمات الشّاعر نجيب سرور، ألحان وغناء الشّيخ إمام عيسى، هي الأغنية الملائمة لكلّ مراحل الحياة. لا يهم المرحلة إنّ كانت سعيدة أو حزينة، فيها أمل أو خيبة، قلق أو راحة، كلما سمعتها تشعر بأنها تُغنى لك. تحكي معك.. الأغنية لا علاقة لها لمن يعرف البحر أو لا يعرفه، سواء كان البحر قريبًا أو وبعيدًا.. هي قادرة أن تحمل لك مشاهد بصريّة مختلفة كلما سمعتها، تحمل معها وجوهًا عديدة وذكريات.. وكأنك كلما تسمعها تشعر بأن الزّمن توقف. لا يتحرك. كأن حالتك المرافقة لها حين سمعتها قبل 5 أعوام، مع ناس أو من غيرهم، تشبه حالتك حين تعيد سماعها اليوم، لوحدك أو مع آخرين.. والأجمل، بأنك تدرك تمامًا بأن حالتك هي، المرافقة لسماع الأغنية، تمامًا كما الملايين من عشاق الأغنية ذاتها. هي أغنية الطبطبة على الروح.. وحاملة المقولة الوجوديّة الأبديّة: ولسّه جوا القلب أمل.

أحد أطفال "كفرون"؛ يزن أتاسي: "نحنا ما منشبه بعض"

حاورته: رشا حلوة كان ذلك في العام 1990، حين قال له والده: "بدنا نروح مشوار"، لم يخبره إلى أين، "كنت رفيق أبي كتير وأنا وصغير، بروح معه على الشغل، وقالي رايحين مشوار، وبشكل طبيعي ركبنا بالسيارة، وصلنا على مكان قريب من مدرستي وفتنا على بناية، بكتشف بعد ما فتت إننا وصلنا على مكتب دريد لحّام"، يقول الفنان السوري يزن أتاسي في حوار خاص لمجلة "الحياة"، أجريناه عبر السكايب. ويزن أتاسي (1980) هو أيضاً "وسيم"، أحد الأطفال الذين مثلوا أدوار البطولة في فيلم "كفرون" لدريد لحّام، الذي سيتمحور معظم حديثنا عن تجربته فيه، التجربة الشخصية والفنّية لطفل في فيلم سوري، قبل 24 عاماً، كان لها أحد التأثيرات الكبرى على جيل كامل عاش طفولة التسعينيات. " هنالك معرفة بين دريد وأبي"، يقول يزن، "بس أنا انسطلت، لأنه أول مرة بحياتي بشوفه وجهاً لوجه، هني بحكوا وأنا مسحور لأني قاعد قدام غوار الطوشة!". بعدها خرجا من المكان، لا يذكر يزن الحديث الذي دار بين والده ودريد لحّام، ويعتقد أيضاً أنه كان قد قابل أخته نور أتاسي قبله، وهكذا وقع القرا

ريم بنّا.. التهليلة الفلسطينية الباقية

(رشا حلوة ) أذكر أني سمعت الفنانة الفلسطينية ريم بنّا لأول مرةٍ حين كان ربيعي يلامس العشرة أعوام، لا أعلم كيف وصل كاسيت "الحلم" إليّ، أو ربما لا أذكر. كان الوقت صيفًا في عكا، في غرفتي المطلة على البحر. أذكر بأني ناديت على أمي لتشاركني سماع الكاسيت، فسمعنا سويةً "يا ليل ما أطولك" وبكتْ أمي حين أخذتها التهليلة إلى كل الحنين الذي حملته معها منذ أن هُجّر أبوها من قريته الجليلية حتى ساعة انتظار العودة، التي طالت. ترتبط ريم بنّا في روحنا وذائقتنا بالتهليلة الفلسطينية والمورث الشعبي الفلسطيني. فهي أول من أعادت غناء وإحياء التهليلة الفلسطينية واحترفتها حتى يومنا هذا، بما في ذلك ضمن ألبومها الأخير "مواسم البنفسج- أغاني حُب من فلسطين"، والذي يحتوي على تهليلة "أمسى المسا"، المرفوعة إلى اللاجئين الفلسطينيين. بدأت ريم تهتم بالغناء التراثي الفلسطيني حين كانت لا تزال في المدرسة، يوم طُلب منها أن تحفظ أغاني تراثية لمهرجان تراثي في مدرستها، ونصحتها والدتها الشاعرة زهيرة صبّاغ أن تغني التهليلة الفلسطينية التي لم يغنّها أحد بعد. شعرتْ وقتئذٍ أن التهاليل تلائم صوتها