التخطي إلى المحتوى الرئيسي

وهبنا عمرنا للأمل


رشا حلوة
من فلسطين خرجنا مجموعة لا تقل عن 120 شخصاً، قاصدين القاهرة لحضور حفل زياد الرحباني في آذار/ مارس 2010. القاهرة وزياد الرحباني، كلاهما أسباب عديدة للفرح.. كانت الزيارة عبارة عن أربع أيام سريعة. كيف يعيش الإنسان أربع أيام في القاهرة فقط؟ وفي داخله كلّ الشغف لرؤية كلّ شيء. أنا عن نفسي، لم أذهب لزيارة الأهرامات، كنت قد زرتها وأنا في الحادية عشر من عمري، بلا ذكريات صافية منها. لكني فضلت زيارة تفاصيل حياة الناس؛ الشوارع، المقاهي، البيوت.. وجوه القاهرة، خلال أربع أيام. لكن، بين كلّ هذا كيف لن ألتقي "حبيب الشعب" أحمد فؤاد نجم؟

لم تأخذ مسألة ترتيب الزيارة العديد من الوقت، بمساعدة وتنسيق صديق مصري استطعنا أن نرتب لزيارة العمّ نجم. وبسبب ضيق الوقت والسرعة، أبلغت مجموعة صغيرة من الأصدقاء الفلسطينيين نيتنا بزيارة الشاعر. وصل عددنا إلى ثلاثين، ركبنا سيارات أجرة وكانت بوصلتنا "المقطم". مشاعر مركبة عديدة. القاهرة، سرعة تحقق الحلم، سألتقي بالعمّ نجم لأول مرة. ياه! ماذا يقول الطالب لمعلمه في بيته؟ أي كلمات سيستخدم كي يقول لإستاذه المصري:"علمتنا حبّ البلاد". كم من الوقت سنحظى به معك؟ مع مجموعة لا تقل عن ثلاثين شخصاً!

وصلنا إلى مدخل البناية. فتحت لنا زينب الباب. كان يجلس عند طرف الكنبة باتجاه مدخل البيت بجلابيته البيضاء وفي يده سيجارة. وقف كي يستقبلنا. كان مبتسماً كما الصور كلّها. أراد أن يعرف أسماء كلّ القادمين إلى بيته. وكلما وصل أحد منا إلى يده، قال اسمه وحضنه. جلسنا حوله. هناك من جلس على الأرض. كلّ وجوهنا باتجاه. ما بين صمت وتأثر وترقب. فجأة نادى على ابنته زينب وطلب منها أن تحضر المزيد من كؤوس الشاي، حيث العدد الموجود بالبيت لا يكفي لثلاثين شخصاً. ضحكنا جميعاً معه.

كانت بداية حديثه عن فلسطين، وشتم كعادته القادة السياسيين كلّهم. من ثم انتقل لشتم مبارك. وحين شاركه بعض منا هذه الشتيمة، قال ساخراً:"كل واحد يشتم رئيسه بأه". وضحكنا. كنت أجلس أمامه. وحين انتقل بحديثه عن  جمال عبد الناصر، قمت وجلست إلى يساره على الأرض. سرد علينا قصته مع والدته حين جاءت إلى المعتقل لإبلاغه عن موت عبد الناصر وهي تبكي. "حد يبكي على اللي سجن ابنه؟" فأجابته والدته:"يا حمار! ده عامود الخيمة وقع". على الفور طلبنا منه قصيدة. فاختار "ضريح عبد الناصر". من ثم نادى على زينب من جديد كي تغني لنا. فلم يكن أي مجال للبحث عن أغنية ملائمة لهذا اللقاء، فأغنية "يا فلسطينية" كانت الحاضرة. غنّت زينب ومعها العمّ نجم ونحن بدورنا شاركنا بغناء الأغنية التي كلما وصلنا إلى مفترق إحباط، كانت كلماتها ولحنها وصوت الشيخ إمام دروساً متجددة في "وهبنا عمرنا للأمل"*.

انتهت فترة الزيارة. لا أذكر اليوم ما الذي كان مؤشراً لإنتهاء الوقت. ما هو مؤشر انتهاء زيارة عفوية وبسيطة وتلقائيه كما روحه؟ هل كان أحد بيننا مستعجلاً للذهاب إلى مكان ما؟ لماذا لا يفكر الإنسان بأن لا شيء يفوق اللحظة؟ وأنّ الطريق وإن كانت مخططة، ثمة ما يفاجئنا بها، كزحمة السير مثلاً!

لكننا لم نمشي بسرعة. كان لا بد من جولة تصوير مع العمّ. رافقتها حملة توقيعات لمن حمل في يده ديوان شعري له. جاءت إحدى الشابات وطلبت منه أن يكتب لها إهداءً باسم صديقها في فلسطين. كنت لا زلت جالسة إلى يساره أراقب ما يكتب وأتأمل الوجوه. فسألها ضاحكاً:"هو مين ده؟ الجوّ بتاعك؟". بعدما إنتهى من التوقيعات، أعطيته دفتري الصغير وطلبت منه أن يكتب لي شيئاً. فسألني ضاحكاً:"كمان للجوّ بتاعك؟". فأجبته مبتسمة:"إلي أنا". فكتب لي:"رشا الجوّ بتاعي أنا. وبحب رشا. واللي مش عاجبه.."، لكم أن تعرفوا  بأي شتيمة أنهى إهدائه الجميل. ولكم أن تتخيلوا أيضاً، شعوري بأني أحمل كنزاً بين يدي، كنز لا علاقة له بكنوز القصائد التي كتبها ويملكها كلّ منا، كنزٌ خاص لي.. بخط يده، الخط ده خطه، والكلمة دي ليا.

عند وصول خبر رحيله، صباح يوم الثلاثاء، الثالث من ديسمبر، كنت في حيفا. وكانت اللحظات الأولى المرفقة بالدموع بمثابة استرجاع لكل علاقة شاعرنا بي، بنا نحن الفلسطينيون. الزيارة إلى بيته كانت حاضرة في الذاكرة، لكن لم تكن تفاصيلها واضحة إلا بعدما رحل. عندها أمسكت بالذاكرة وقلت لها:"عيشي!". لكن، ماذا عن الذكريات المرتبطه به في هذا المكان، في فلسطين؟ تلك التي عشناها خلال سهراتنا الطلابية في الجامعات؟ أو في بار صغير في حيفا؟ أو في بيوت الأصدقاء في عكّا وحيفا والقدس ورام الله؟ ماذا عن حضوره ورفيق دربه الشيخ إمام في لحظات النصر القليلة؟ أو خلال الأيام الأولى للثورة المصرية؟ نجح هو والشيخ إمام بأن يجعلانا نعيش في مصر ونحن في فلسطين. استطاع أن يحمل كلّ منا إلى السجون والمظاهرات والإضرابات وقصص الحبّ التي شقت لها طريق أغلقه الاحتلال. لمن سنحكي كلّ القصص هذه؟ لماذا لم ننجح أن نحكي له كلّ القصص هذه؟ كيف سنقول له بأن "يا فلسطينية وأنا بدي سافر حداكو" لم تكن مجرد رغبة في القصيدة، بل أنه كان هُنا كلّ الوقت. وبأن "بلدي وحبيبتي" هي حياة العديد منا، وهي الروح التي تحمي العشاق من قهر المكان.. نحن الذين تعلمنا دروس الحبّ بالمصرية. 


عن مجلة "أخبار الأدب" المصرية


*"وهبت عمري للأمل"؛ من كلمات الشاعر أحمد فؤاد قاعود.

تعليقات

  1. عزيزتي وهبت عمر للأمل من كلمات الشاعر أحمد فؤاد قاعود و ليست لأحمد فؤاد نجم

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

عن "البحر بيضحك ليه؟" ومراحل الحياة..

عكّا، بعدسة: نادر هواري أغنية "البحر بيضحك ليه"، من كلمات الشّاعر نجيب سرور، ألحان وغناء الشّيخ إمام عيسى، هي الأغنية الملائمة لكلّ مراحل الحياة. لا يهم المرحلة إنّ كانت سعيدة أو حزينة، فيها أمل أو خيبة، قلق أو راحة، كلما سمعتها تشعر بأنها تُغنى لك. تحكي معك.. الأغنية لا علاقة لها لمن يعرف البحر أو لا يعرفه، سواء كان البحر قريبًا أو وبعيدًا.. هي قادرة أن تحمل لك مشاهد بصريّة مختلفة كلما سمعتها، تحمل معها وجوهًا عديدة وذكريات.. وكأنك كلما تسمعها تشعر بأن الزّمن توقف. لا يتحرك. كأن حالتك المرافقة لها حين سمعتها قبل 5 أعوام، مع ناس أو من غيرهم، تشبه حالتك حين تعيد سماعها اليوم، لوحدك أو مع آخرين.. والأجمل، بأنك تدرك تمامًا بأن حالتك هي، المرافقة لسماع الأغنية، تمامًا كما الملايين من عشاق الأغنية ذاتها. هي أغنية الطبطبة على الروح.. وحاملة المقولة الوجوديّة الأبديّة: ولسّه جوا القلب أمل.

أحد أطفال "كفرون"؛ يزن أتاسي: "نحنا ما منشبه بعض"

حاورته: رشا حلوة كان ذلك في العام 1990، حين قال له والده: "بدنا نروح مشوار"، لم يخبره إلى أين، "كنت رفيق أبي كتير وأنا وصغير، بروح معه على الشغل، وقالي رايحين مشوار، وبشكل طبيعي ركبنا بالسيارة، وصلنا على مكان قريب من مدرستي وفتنا على بناية، بكتشف بعد ما فتت إننا وصلنا على مكتب دريد لحّام"، يقول الفنان السوري يزن أتاسي في حوار خاص لمجلة "الحياة"، أجريناه عبر السكايب. ويزن أتاسي (1980) هو أيضاً "وسيم"، أحد الأطفال الذين مثلوا أدوار البطولة في فيلم "كفرون" لدريد لحّام، الذي سيتمحور معظم حديثنا عن تجربته فيه، التجربة الشخصية والفنّية لطفل في فيلم سوري، قبل 24 عاماً، كان لها أحد التأثيرات الكبرى على جيل كامل عاش طفولة التسعينيات. " هنالك معرفة بين دريد وأبي"، يقول يزن، "بس أنا انسطلت، لأنه أول مرة بحياتي بشوفه وجهاً لوجه، هني بحكوا وأنا مسحور لأني قاعد قدام غوار الطوشة!". بعدها خرجا من المكان، لا يذكر يزن الحديث الذي دار بين والده ودريد لحّام، ويعتقد أيضاً أنه كان قد قابل أخته نور أتاسي قبله، وهكذا وقع القرا

ريم بنّا.. التهليلة الفلسطينية الباقية

(رشا حلوة ) أذكر أني سمعت الفنانة الفلسطينية ريم بنّا لأول مرةٍ حين كان ربيعي يلامس العشرة أعوام، لا أعلم كيف وصل كاسيت "الحلم" إليّ، أو ربما لا أذكر. كان الوقت صيفًا في عكا، في غرفتي المطلة على البحر. أذكر بأني ناديت على أمي لتشاركني سماع الكاسيت، فسمعنا سويةً "يا ليل ما أطولك" وبكتْ أمي حين أخذتها التهليلة إلى كل الحنين الذي حملته معها منذ أن هُجّر أبوها من قريته الجليلية حتى ساعة انتظار العودة، التي طالت. ترتبط ريم بنّا في روحنا وذائقتنا بالتهليلة الفلسطينية والمورث الشعبي الفلسطيني. فهي أول من أعادت غناء وإحياء التهليلة الفلسطينية واحترفتها حتى يومنا هذا، بما في ذلك ضمن ألبومها الأخير "مواسم البنفسج- أغاني حُب من فلسطين"، والذي يحتوي على تهليلة "أمسى المسا"، المرفوعة إلى اللاجئين الفلسطينيين. بدأت ريم تهتم بالغناء التراثي الفلسطيني حين كانت لا تزال في المدرسة، يوم طُلب منها أن تحفظ أغاني تراثية لمهرجان تراثي في مدرستها، ونصحتها والدتها الشاعرة زهيرة صبّاغ أن تغني التهليلة الفلسطينية التي لم يغنّها أحد بعد. شعرتْ وقتئذٍ أن التهاليل تلائم صوتها