علي شعث ورنوة يحيى |
رشا حلوة
المشهد الأول
مايو 2012. بار في فندق.
المجموعات الأولى للمشاركين وصلت إلى شرم الشيخ. الليلة الأولى؛ فعاليات أغان ورقص
بوتيرة متصاعدة إلى أن وصلت قمتها عند الواحدة صباحاً. علي يمسك في يده دربكة
ونغني معه أغاني وردة الجزائرية. نغني ونرقص ونضحك. المشاركون القادمون من تونس
تأخروا في مطار القاهرة. ساد قلق بأن لا يصلوا عند بداية المؤتمر أو القلق الأكبر يكمن
باحتمال إعادتهم إلى تونس. الأغاني مستمرة؛ فلسطينيون ومصريون وسوريون ولبنانيون
وأردنيون. انتهت فقرة أغاني وردة. انتقلنا إلى أغاني محمد منير.
المشهد الثاني
فور رحيل علي بحثت في الملفات القديمة
ووجدت من هذه الليلة مقطعاً مصوراً ًقصيراً يوثق لثوانٍ معدودة علي حين كان يغني: "آه
يا لا لا لي.. يا بو العيون السود يا خلي".
المشهد الثالث
في صباح اليوم الثاني لحلقة
الأغاني والرقص في شرم الشيخ، استيقظنا على خبر رحيل وردة الجزائرية.
المشهد الرابع
في الليلة الثانية للمؤتمر، عند منتصف
الليل، كان قد وقع اختيار شاطئ البحر أن يضم سهرتنا هذه المرة. كنا نختار سهراتنا
كلّ ليلة في مكان مختلف داخل الفندق. بعد بداية السهرة بقليل، قررت أن أترك
المجموعة وأذهب وحدي قليلاً لأتأمل البحر، ومن ثم عُدت إليهم، فإذ بمجموعة من
الأصدقاء تغني أغاني تونسية وتجلس على مقاعد البحر. ومجموعة ثانية، تضم علي ورنوة
وخالد وتحرير، تغني أغاني الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم. فجأة، توقفت المجموعة
التونسية عن الغناء، وانضمت إلى مجموعة الأغاني المصرية. وبعد انتهاء فقرة
"الشيخ إمام"، أحضر علي جيتاراً كي يغني بذات التلقائية والعفوية
والسعادة، الأغنية التي انشهرت بصوته وأدائه أكثر من مغنيها الأصلي ياسر المناوهلي:
"قلة مندسة". غنّى الأبيات وكنا نغني اللازمة معه. وفي تلك الأثناء،
رُسمت على وجوهنا الابتسامة التي تشبه ابتسامة علي، كأنها تنتقل إلينا منه، بسحر
ما.
في تلك الليلة أخبرت علي ورنوة: "بدي
أحكيلكو فكرة". أجاباني: "طبعاً، خلينا نحكي قبل ما نرجع القاهرة وترجعي
عكّا".
المشهد الخامس
انتهى المؤتمر. الفندق فارغ. كانت
الغالبية قد غادرت باكراً. علي ورنوة والعائلة سيعودون إلى القاهرة من شرم الشيخ
بالسيارة التي استقلوها. كانا جالسين في غرفة الاستقبال الفندقية. جلست بجانبهما وحدثتهما
عن فكرة إنشاء "راديو أون لاين" للمنطقة العربية كلّها ويتحدث بلهجاتها.
كعادتهما، شجعاني على كتابة المشروع وإرساله والبدء في خطواته الأولى. كانت
المحادثة باللهجة الفلسطينية واللبنانية، وسرعان ما تحولت إلى المصرية حينما توجه
إليهما ابنهما نبيل لسؤالهما: "إمتى هانمشي؟".
المشهد السادس
يناير 2013. وصلت القاهرة وقصدت
مؤسسة "أضف" في المقطم، لإقامة الاجتماع الأول لحُلم "راديو
الإنترنت". احتضن اللقاء عددًا صغيرًا من محبّي الفكرة والأصدقاء. مجموعة
تقنية وأخرى تعنى بالمضامين. لكن، لم تكن تلك التفرقة ذات أهمية. كنا نريد "أون
لاين راديو"، وكانا رنوة وعلي حارسين لهذا الحلم. أذكر "لايك" رنوة
في اليوم الأول لهذا اللقاء، حين كتبت عبر الستاتوس: "أن تتحقق
الأحلام". لم أبح لها بأي تفصيل عن القصد من الستاتوس أو الحُلم، لكنها
فهمتني. هي تفهمنا دوماً. وكانا سوياً يفهماننا دوماً.
اقترح علينا علي عندها أن نقوم
بتسجيل تجريبي لفقرات الراديو. وبادر بدوره بتسجيل صوته. فقال: "هُنا راديو..
هُنا". رشا، صديقتي وشريكتي اللبنانية، قامت بالتسجيل عبر هاتفها النقال.
المشهد السابع
بعد رحيل علي بيوم واحد، أرسل لي
زميلي أحمد عبر التويتر ليستفسر عن مكان هذا التسجيل. على الفور تواصلت مع رشا عبر
"الواتساب"، وأخبرتي بأسف وحزن بأن ملفات "الميديا" اختفت
كلّها من الهاتف.
لماذا لم نحتفظ بالملفات عندها؟
لماذا لم ننقلها إلى "مكان أكثر أمانًا"؟ لماذا لم نسمع نصيحة
"غاوي الأراشيف"؟ ولماذا اعتقدنا بأن نصيحة علي مرتبطة بالملفات العامة
فقط؟ ولم نسمع كلماته التي بين السطور، التي ربما لم يبح بها بصوتٍ عال: "احفظوا
لي صوتي.. احفظوا أصواتكم".
المشهد الثامن
في الليلة ما قبل انتهاء لقاء
الراديو. ذهبنا أنا ورشا إلى بيت رنوة وعلي في المقطم. كان موعد الزيارة بعدما ذهب
الأولاد الثلاثة إلى النوم. ضوء خفيف في الصالة. الجوّ دافئ برغم برد منطقة المقطم
المرتفعة. قامت رنوة إلى المطبخ لتجهز لنا الشاي. وحين عادت إلى الصالة، بدأنا أنا
ورشا بسرد ملخص ما احتوى اللقاء من مضامين واستنتاجات وتخطيطات وخطوات مستقبلية.
كانا رنوة وعلي في كامل الإصغاء. وحين انهينا أنا ورشا المداخلة، بادر علي بأفكار
جديدة وببعض النصائح. وكان الاقتراح الذي لا زال عالقاً في ذهني، برغم الاقتراحات
كلّها التي كتبتها على الدفتر الصغير: "أعدّوا برنامجاً أو فقرة تطلب من
المستعمين أن يقوموا بتسجيل الصوت المفضل لديهم في القرية أو المدينة، وقوموا
بإسماعها عبر الراديو، على أن تتيحوا فرصة التصويت للمستعمين عن أفضل صوت كلّ
أسبوع". وأضاف: "إن أهم ما في فكرة الراديو ومشاريع الويب عموماً أن
يكون للمستمع وللمستخدم دوراً فاعلاً".
لم يتقدم المشروع بخطوات ملموسة
يا علي، لكني أعدك بأن لا أضع هذا الحلم جانباً.
المشهد التاسع
سأعود بالأيام قليلاً، إلى ما قبل
العام 2012؛ إلى نهاية يناير 2011. إلى بيت صغير في رام الله، تجلس في صالته
مجموعة تصل إلى 20 شخصاً من الأصدقاء والصديقات، تتابع قنوات التلفاز كلّها؛
العربية والمصرية، بقلق وخوف، وبإهمال لكلّ أمر يحدث خارج المشهد المصري. كان علي قادماً
بزيارة سريعة إلى فلسطين. بصراحة، لا أذكر من كان برفقته، نبيل أم نديم أم رامي.
لكنه كان سعيداً لاصطاحب أحدهم لأول مرة إلى فلسطين، ومتفائلاً بما يحدث في مصر. كأن
الذي جعل زيارته في نفس موعد بداية الثورة المصرية أمرًا مقصودًا. فحضوره معنا،
تحليلاته، رؤيته وابتسامته المرافقة للسرد، كانت كلّها أسباب تراكمية لأمل لم يصل
إلى ذروته يوم 11 فبراير 2011، بل هو مستمر حتى يومنا هذا.
المشهد العاشر
بصراحة، لا أذكر تاريخ هذا
المشهد. لكنه بلا شك كان بعد يناير 2011، وغالباً كان ما قبل يناير 2012. لكني
أذكر بأنه كان يوم جمعة، وكنت أنا في استضافة علي ورنوة والعائلة لوجبة إفطار
متأخرة. كانت الإستضافة في بيت العائلة القديم في الزمالك. الجوّ لطيف. وصلنا أنا
وصديقي ميسرة بساعة متأخرة نسبياً عن الموعد الذي دعونا إليه. وكانوا قد سبقونا.
ونحن بدورنا كنا نأكل ونتحدث معهم. كان الحديث يدور غالباً حول مصر، وكان علي
متفائلاً كعادته. بعد أن انتهينا من الأكل، تطرق علي بحديثه إلى زيارته الأخيرة
إلى فلسطين. يومها دخل إلى الأراضي المحتلة عام 1948، وأخبرني عن المدن التي
زارها. وأضاف: "يتعامل الفلسطيني في الـ48 مع إسرائيل في أمور الحياة؛
الجامعة، العمل، موقف السيارات، الدكان، المواصلات العامة، لكن مقابل كلّ هذه
التفاصيل، انتابني طوال فترة زيارتي شعور بأن الفلسطيني يقول: لكن هذا الواقع مؤقت". هكذا لخص علي زيارته إلى فلسطين وبأن الظلم الذي يعيشه الناس لا بدّ أنه مؤقت.
ما من مشهد أخير
أنا، كما العديد ممن عرفوك يا علي
لدقائق أو لأيام أو لسنين، تعيش ذاكرة ما منك فينا. هذه "الذكريات" الحكيمة
سنشاركها مع الآخرين ونمررها لمن لم يحظ بسماع صوتك ونذكرها لبعضنا البعض، كلّ على
طريقته، لأن: "المصادر المفتوحة تعني الحرية".
لروحِك السلام.
http://hayatafterhisdeath.blogspot.de/2014/08/blog-post.html
ردحذف:)