التخطي إلى المحتوى الرئيسي

إبراهيم نصر الله: كلّ سفر في حياة الفلسطيني فيه لسعة المنفى


حاورته: رشا حلوة
يرتبط اسمه دوماً في تفسيره لمفهوم أو حالة ما يُسمى بـ "روح العالم"، والذي تحدث عنها في الصفحات الأولى من "السيرة الطائرة- أقل من عدو أكثر من صديق"، كمقدمة لسيرة تحمل بين صفحاتها قصص السفر والإنسان والكتابة.
في روايتي (طيور الحذر)، كتبت عن أمي وأبي وأصدقائي وتعلقي بالطيور وعن المخيم الذي تحول من خيمة إلى بيوت إسمنتية، وتحول إلى شكل دائم للحياة مع أن أهلنا كانوا يعتقدون أنه مؤقت هذه الروح التي تحكي قصتنا، والتي خصص لها صفحات لتفسيرها حسبما يراها، تعيش وتُسرد وتحكي الماضي والذاكرة في كلّ ما أنتجه الشاعر والروائي إبراهيم من أدب وشعر وفنون، وللدقة أكثر واقتباساً لكلماته:"كلّ هؤلاء جعلونا نعيش في بيت واحد يتّسع لنا كلّنا، وتُغطي مساحته كوكبنا الصغير الجميل البائس".
من خلال هذا الحوار، يتحدث الشاعر والروائي إبراهيم نصرالله (1954 عمّان، لأبوين فلسطينيين هُجرا من قرية البريج، قضاء القدس) عن علاقته الأولى بالكتابة، عن التأثير الحيّ للمخيم على روايته وقصيدته، عن "روح العالم"، عن روايته الجديدة "شرفة الهاوية" والمزيد.

علاقتك الأولى بالكتابة، متى بدأت؟ وما هو الشيء الذي جعلك تأخذ الكتابة نهجاً للحياة؟
ربما الأحاسيس القوية التي لا يستطيع الطفل أنّ يعبر عنها بسهولة، وجدت نفسها في القصائد البسيطة في نهاية المرحلة الإعدادية، كما أنّ بعض القصائد التي تتحدث عن فلسطين قبل النكبة كانت جزءاً من الإلهام إلى جانب الذكريات التي يحملها أبي وأمي وأقاربي، ومن المفارقات أنني كتبت قصيدة هجاء في تلك الأيام موجهة لأستاذ اللغة العربية بسبب قسوته علينا أحياناً، وكان اسمه (ربيع) ولم يكن يسكن بعيداً عن بيتنا، وخلال حرب أيلول الأسود ضد الفلسطينيين سقطت قذيفة على منزله فاستشهد، وقد كان يمكن أنّ تسقط القذيفة على بيتنا ونموت نحن، ذلك أحزنني كثيراً فكتبت قصيدة رثاء له، وقد كان موته أكبر درس تعلمته في حياتي حتى اليوم: إنّ القصائد والأدب بشكل عام يجب أنّ يكون مع الناس الطيبين لا ضدهم.

ماذا يشكل المخيم بالنسبة لك؟ وكيف لا زال يؤثر على قصيدتك وروايتك ومسيرتك الثقافية والفنّية؟
نحن نتحدث الآن عن ذكريات عمرها أكثر من نصف قرن تقريباً. أتذكر أنّ المدرسة الأولى كانت خيمة، ولم يكن هناك مقاعد، وكنا نجلس على التراب المبتل بماء الشتاء، وكان كلّ أربعة أو خمسة أطفال يشتركون في كتاب واحد، وقد قلت ذات مرة، منذ تلك اللحظة أصبحت أمنيتي أنّ يكون لي كتاب خاص بي، بعد ذلك حين أصبحت هناك أبنية اكتشفنا عدم السماح بوجود مكتبات في تلك المدارس، كما لو أنّ هناك حرصاً على أن نكون خارج الوعي، لا ندرك ما حدث لنا كشعب، أو ما يمكن أنّ نصبح عليه مستقبلاً، كان كلّ شيء حولنا يحاول أنّ يقتلعنا من ذكريات ماضية دون أن يمنحنا أي شكل من أشكال الأمل، كما كان الفقر الرهيب لا يساعد الواحد منا على شراء الكتب أو حتى الدفاتر، وكانت أمهاتنا تصنع لنا حقائبنا المدرسية من فضلات القماش. ولم يكن ذلك سوى صورة لشعب تم اقتلاعه من وطنه وعليه أن يبدأ حياته من نقطة الصفر، وهو لا يملك بيتاً أو مالاً أو ملابس أو حتى طعاماً.
هذا كله كتبت عنه. في روايتي (طيور الحذر)، كتبت عن أمي وأبي وأصدقائي وتعلقي بالطيور وعن المخيم الذي تحول من خيمة إلى بيوت إسمنتية، وتحول إلى شكل دائم للحياة مع أن أهلنا كانوا يعتقدون أنه مؤقت، كما كتبت عدة روايات أخرى مهلت من روح المخيم مثل (زيتون الشوارع)، و(مجرد 2 فقط) وعشرات القصائد.

في "السيرة الطائرة - أقل من عدو أكثر من صديق"، تحدثت عن "روح العالم"، وفسرتها حسبما تراها. أين تكمن روح عالم إبراهيم نصر الله اليوم؟
روح العالم قائمة في كل شيء خارج الدمار وشهوة الحرب وإفساد الأرض وترويض البشر، قائمة في النبل والفن والأدب وخصوصيات الشعوب الجمالية، وقائمة في الشجاعة وقول: لا، بصوت لا يرتعش في وجه كل تسلط واحتلال وتجويع وإفساد..

زرت الضفة الغربية قبل 3 أعوام. كيف أثرت هذه الزيارة على الروايات والقصائد التي كتبتها فيما بعد؟
كانت هذه الزيارة مختلفة كثيراً عن تلك التي قمت بها قبل الانتفاضة الأولى، ففي الزيارة الأولى عدت وكتبت (الأمواج البرية) حيث كانت الروح الفلسطينية في أصفى درجات تألقها، أما في الزيارة التي قمت بها قبل ثلاث سنوات، فكان كل شيء قد أصيب في الصميم، بدا لي أن الروح ترهلت، وليس أدلّ على ذلك من الأمن الذي ينعم به المستوطنون وجيشهم. ولذا كانت زيارة محبطة إلى حد كبير.
قبل شهرين كنت هناك أيضاً، وكانت الزيارة فرصة للتعرف على الوضع عن قرب أكثر، وبخاصة في مدينة الخليل التي تعاني وضعا مأساوياً بسبب وحشية المستوطنين، وقد قابلت كثيراً من الناس، وسأعود بعد أيام للمشاركة في مؤتمر تعقده لجنة القدس عاصمة دائمة للثقافة العربية، وقد خصصت وقتاً خارج المؤتمر لمتابعة بعض المشاريع الكتابية التي أحس بأنها بدأت تتشكل.

قلت في حوارات سابقة بأنّك تجد نفسك في القصيدة والرواية والقصة والسينما بنفس الدرجة على حدّ سواء. لكن، كيف تحدد نوع الكتابة حين ترغب بالتعبير الأدبي عن حالة ما؟
الرسم والتصوير، مثلاً، من روافد تجربتي الأدبية، وهما محاولة لتذوّق العالم والإحساس به وبمذاقه بوسائل تعبير أخرى على المستوى الإنساني، ولذا حضرا في شعري وفي رواياتي، إضافة إلى السينما، فهي كلها عناصر أساسية في بناء النوع الأدبي. أظن أنني أصبحت بهما إنساناً قادراً على عيش الحياة والتمتع بها وبجمالياتها بصورة أفضل، تلك الجماليات التي لا تستطيع الكلمة أنّ تراها، أو لا تستطيع أن تراها بسهولة دائماً. لكن مشروعي الأساسي قائم في الشعر والرواية.

في الفترة التي أكتب فيها الشعر لا أكتب الرواية أبداً، وكذلك حين أكتب الرواية لا أكتب الشعر.

صدرت لك مؤخراً روايتك الجديد "شرفة الهاوية" عن "الدار العربية للعلوم ناشرون"، وهي الرابعة ضمن سلسلة مشروع "شرفات". لماذا قررت العودة أدبياً إلى ما قبل 20 عاماً من الثورات العربية الآن بالذات؟ إلى ما يُسمى بمرحلة التحولات الديمقراطية في الوطن العربي؟
هذه الفترة شغلتني في الروايات الثلاث التي صدرت قبل هذه الرواية ضمن مشروع الشرفات، ولكنني كنت في كل مرة أنشغل بجانب من جوانب حياتنا خلال العقدين الماضيين. انشغلتْ (شرفةُ الهذيان) بآثار حرب الخليج واحتلال بغداد على الروح العربية، وانشغلت (شرفة رجل الثلج) بالتمادي المفرط في سحق الإنسان العربي، وانشغلت (شرفة العار) بالجرائم التي ترتكب ضد المرأة وفي مقدمتها ما يسمى جرائم الشرف، الرواية الجديدة انشغلت بتمادي الأنظمة العربية في مجال الفساد على أعلى مستوياته، وفي أعلى مستوياته، رغم أنّ الإنسان العربي كان موعوداً بإصلاحات ديمقراطية في نهاية الثمانينات من القرن الماضي. ولم يحدث شيء، بل أصبحت الأمور أكثر سوءا على المستوى السياسي والاقتصادي والتعليمي والاجتماعي.

لماذا أطلقت على هذا الجزء من سلسلة روايات "شرفات"، اسم "شرفة الهاوية"؟
هذه الرواية مشغولة بمجتمعات كاملة يتم دفعها نحو الهاوية، فهناك عناد رسمي عربي يعتقد أنه لم يزل قادراً على أنّ يخدع الناس وأن يذلهم، وأن يطعمهم سراب الوعود دون أن ينالوا شيئا، وهناك الفساد المحمي رسمياً. ولذا بات الجميع على طرف هذه الشرفة.

بعد "الملهاة الفلسطينية" وخاتمتها " قناديل ملك الجليل" جاءت "شرفات"، هل من مشروع مستقبلي لسلسلة روائية جديدة؟
هناك أكثر من مشروع ضمن الملهاة، وزيارتي القادمة للضفة الغربية جزء من هذا العمل لمواصلة التحضير للمشروع القادم، كما أنّ هناك توجّها لإضافة رواية (مجرد 2 فقط) و(الأمواج البرية) إلى مشروع الملهاة، لأنهما تغطيان جانبا أساسياً من الحكاية الفلسطينية.
أما عن وجود مشروع روائي آخر إلى جانب الشرفات والملهاة فلا أظن أنّ ذلك وارداً، فالمشروعان يغطيان مساحة واسعة من انشغالاتي الإنسانية، ولكن هذا لا يعني أنني لن أنشر أعمالا مستقلة عنهما.

ما هي معادلة السفر- الكاتب؟ كيف يؤثر كلّ طرف على الآخر في هذه المعادلة بالنسبة لك؟
السفر ترك أثراً كبيرا في حياتي كإنسان، ووضعني ككاتب أمام تحديات كبيرة، لأنك حين تسافر وتلتقي هذه الأعداد الكبيرة من الكتاب اللامعين من حملة نوبل حتى الأصوات الجديدة، تجد نفسك مسؤولاً أكثر، إذ عليك أنّ تعمل وتجتهد كثيراً لتكون صورة جيدة لبلادك والأدب العربي أيضاً. ومن ناحية أخرى كان السفر سبباً أساساً في كتابة خمسة أو ستة من كتبي بصورة مباشرة، بدءاً من (براري الحُمّى) وليس انتهاء بـ (السيرة الطائرة)، وإنّ كنت أعتقد أنّ كلّ كتاب من كتبي له علاقة ما بالسفر، فما دمت محروماً من بلادك فأنت في سفر دائم، أو منفى دائم، إذ كلّ سفر في حياة الفلسطيني فيه لسعة مذاق طعم المنفى.



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

عن "البحر بيضحك ليه؟" ومراحل الحياة..

عكّا، بعدسة: نادر هواري أغنية "البحر بيضحك ليه"، من كلمات الشّاعر نجيب سرور، ألحان وغناء الشّيخ إمام عيسى، هي الأغنية الملائمة لكلّ مراحل الحياة. لا يهم المرحلة إنّ كانت سعيدة أو حزينة، فيها أمل أو خيبة، قلق أو راحة، كلما سمعتها تشعر بأنها تُغنى لك. تحكي معك.. الأغنية لا علاقة لها لمن يعرف البحر أو لا يعرفه، سواء كان البحر قريبًا أو وبعيدًا.. هي قادرة أن تحمل لك مشاهد بصريّة مختلفة كلما سمعتها، تحمل معها وجوهًا عديدة وذكريات.. وكأنك كلما تسمعها تشعر بأن الزّمن توقف. لا يتحرك. كأن حالتك المرافقة لها حين سمعتها قبل 5 أعوام، مع ناس أو من غيرهم، تشبه حالتك حين تعيد سماعها اليوم، لوحدك أو مع آخرين.. والأجمل، بأنك تدرك تمامًا بأن حالتك هي، المرافقة لسماع الأغنية، تمامًا كما الملايين من عشاق الأغنية ذاتها. هي أغنية الطبطبة على الروح.. وحاملة المقولة الوجوديّة الأبديّة: ولسّه جوا القلب أمل.

أحد أطفال "كفرون"؛ يزن أتاسي: "نحنا ما منشبه بعض"

حاورته: رشا حلوة كان ذلك في العام 1990، حين قال له والده: "بدنا نروح مشوار"، لم يخبره إلى أين، "كنت رفيق أبي كتير وأنا وصغير، بروح معه على الشغل، وقالي رايحين مشوار، وبشكل طبيعي ركبنا بالسيارة، وصلنا على مكان قريب من مدرستي وفتنا على بناية، بكتشف بعد ما فتت إننا وصلنا على مكتب دريد لحّام"، يقول الفنان السوري يزن أتاسي في حوار خاص لمجلة "الحياة"، أجريناه عبر السكايب. ويزن أتاسي (1980) هو أيضاً "وسيم"، أحد الأطفال الذين مثلوا أدوار البطولة في فيلم "كفرون" لدريد لحّام، الذي سيتمحور معظم حديثنا عن تجربته فيه، التجربة الشخصية والفنّية لطفل في فيلم سوري، قبل 24 عاماً، كان لها أحد التأثيرات الكبرى على جيل كامل عاش طفولة التسعينيات. " هنالك معرفة بين دريد وأبي"، يقول يزن، "بس أنا انسطلت، لأنه أول مرة بحياتي بشوفه وجهاً لوجه، هني بحكوا وأنا مسحور لأني قاعد قدام غوار الطوشة!". بعدها خرجا من المكان، لا يذكر يزن الحديث الذي دار بين والده ودريد لحّام، ويعتقد أيضاً أنه كان قد قابل أخته نور أتاسي قبله، وهكذا وقع القرا

ريم بنّا.. التهليلة الفلسطينية الباقية

(رشا حلوة ) أذكر أني سمعت الفنانة الفلسطينية ريم بنّا لأول مرةٍ حين كان ربيعي يلامس العشرة أعوام، لا أعلم كيف وصل كاسيت "الحلم" إليّ، أو ربما لا أذكر. كان الوقت صيفًا في عكا، في غرفتي المطلة على البحر. أذكر بأني ناديت على أمي لتشاركني سماع الكاسيت، فسمعنا سويةً "يا ليل ما أطولك" وبكتْ أمي حين أخذتها التهليلة إلى كل الحنين الذي حملته معها منذ أن هُجّر أبوها من قريته الجليلية حتى ساعة انتظار العودة، التي طالت. ترتبط ريم بنّا في روحنا وذائقتنا بالتهليلة الفلسطينية والمورث الشعبي الفلسطيني. فهي أول من أعادت غناء وإحياء التهليلة الفلسطينية واحترفتها حتى يومنا هذا، بما في ذلك ضمن ألبومها الأخير "مواسم البنفسج- أغاني حُب من فلسطين"، والذي يحتوي على تهليلة "أمسى المسا"، المرفوعة إلى اللاجئين الفلسطينيين. بدأت ريم تهتم بالغناء التراثي الفلسطيني حين كانت لا تزال في المدرسة، يوم طُلب منها أن تحفظ أغاني تراثية لمهرجان تراثي في مدرستها، ونصحتها والدتها الشاعرة زهيرة صبّاغ أن تغني التهليلة الفلسطينية التي لم يغنّها أحد بعد. شعرتْ وقتئذٍ أن التهاليل تلائم صوتها