شاطئ غزة |
رشا حلوة
لم أزر غزة يوماً. لا أعرف شوارعها ولا البيوت ولا الأزقة التي يمشي بها
أصدقائي هُناك. لكن ما بينها وبين مدينتي عكّا ذات البحر. مجرد صور يشاركها
الأصدقاء عبر الفيسبوك، أو في فيلم قصير صورته مجموعة من هواة السينما، أو حين
تنجح صديقة أن تدخل المدينة المحاصرة للعمل على فيلم وثائقي يروي حكايتها. كأن غزة
تعيش في "محرك غوغل للبحث"، أو يضيء اسمها حين تكون تحت القصف لتصبح
"تريند" في موقع "تويتر". كأني لا زلت خائفة أن تصبح عنواناً
رئيسًا في الأخبار، عنوان مليء بالـ "دي جا فو". ولكن، كيف لا يعرف ابن
فلسطين بقعة من وطنه؟
للرحلة أسلوبها في ترجمة الشعور، حتى تلك التي لم تكوني أنتِ فيها. مجرد أن
تخبرك الزميلة ضحى شمس بأنها ستزور غزة قبل فترة طويلة، تتذكرين من جديد بأن عكّا
أقرب إلى بيروت جغرافياً. وكان يمكن لضحى في زمن أكثر عدالة أن تركب حافلة من
بيروت إلى عكّا، تأكل وجبة الإفطار معنا ومن ثم نمشي سويةً إلى الميناء لنأخذ
مركباً باتجاه غزة. لكن في هذا الزمن الرديء، كان عليها أن تسافر عبر طائرة إلى
القاهرة ومن ثم إلى غزة، إلى فلسطين، إلى ذاك المكان الذي لا يمكنني الوصول إليه،
مع أنه قطعة من هذه الأرض.
أعرفهم جيداً أصدقائي هُناك. أكلمهم بوتيرة شبه يومية عبر التويتر
والفيسبوك والسكايب. وأحياناً حين أتصل بصديقتي إباء لأطمئن عليها، أشعر للحظة
الأولى بأني أجري "مكالمة دولية". وحين يأتي صدفة صديق من غزة إلى رام
الله، مدينة يُسمح لي بأن أزورها، كنت أتساءل إن كان هاتفه النقال يعمل
"هُنا"؟ وأصمت للحظات بعد السؤال. أصمت كثيراً. ألتقي بهم دائماً في
مكان آخر غير فلسطين، لا في عكّا ولا في غزة. ببساطة (أو بلا بساطة)، أن تكوني في
القاهرة، تسهري في بار مع مجموعة من الأصدقاء المصريين، ويتصل بك صديق غزيّ علم
بوجودك في أم الدنيا ليأتي عند الساعة الثانية صباحاً ليراكِ لأول مرة. أو حين
تكونين في الاسكندرية وتعلنين عبر صفحتك الشخصية بأنك فيها، تصلك رسالة من صديق
آخر يسألك فيها غير مصدق بأنك في نفس المدينة التي هو فيها، يزورها صدفة كذلك.
وكأن اللقاءات هذه كلّها عبارة عن انتصارات صغيرة. تودعينهم واثقة بأني سآتي إليهم
عبر البحر، في أيام ستكون أفضل.
خلال أيام العدوان الفاشي الأخير على غزة، خرجت حافلات من القاهرة إليها.
الحافلات تحتضن ما يقارب 500 شاباً وصبية قرروا أن يكسروا حصارها بطريقتهم الخاصة،
ويقضون ليلة واحدة تحت القصف. يتحدثون مع الناس ويزورون الجرحى ويزغردون مع أمهات
الشهداء. هذا الحُلم الذي يجتاح معظمنا؛ أن يأتي أصدقاؤنا العرب إلى فلسطين، أن
ألوح لهم بمنديل أحمر عند ميناء عكّا وهم قادمون على مراكب من تونس والإسكندرية
وبيروت.
كم هو عبثي هذا المشهد؛ أصدقاء مصريون يصلون إلى مدينة فلسطينية لا يمكن لي
ولآخرين في فلسطين الوصول إليها. لا نعرفها حتى. لا نعرف غزة. لا نعرف هذه المدينة
الجميلة. لا نعرف كيف يكون شكل مدينة فلسطينية وصلها 500 مصرياً يهتفون في شوارعها
للحرية.. لكنها كانت سعيدة بالتأكيد رغم الأحمر الذي لم يجف في الميناء. وصلتنا هذه
المعلومة أيضاً عبر الصور والفيديو وحديث الناس. وكأنهم جميعهم؛ المصريون
والفلسطينيون في غزة يطمئنوننا أنهم لن يرتاحوا قبل أن نستقبلهم بمناديل ملوّنة في
عكّا.
تعليقات
إرسال تعليق