التخطي إلى المحتوى الرئيسي

غريب أنا يا صفد وأنت غريبة



كأن الشعور العام تجاه مدينة صفد، عاصمة شمال فلسطين، في صفوف فلسطينيي 1948 لا يبتعد عما غناه الفنان الصفدي فتحي صبح في أغنيته «غريب يا صفد»، والتي تقول: «غريب أنا يا صفد/ وأنتِ غريبة/ تقول البيوت هذا/ ويأمرني ساكنوها/ ابتعد/ ابتعد/ ابتعد».
وصبح، الذي ولد في صفد في سنة 1937 وأرغم على الهجرة في العام 1948 مع عائلته إلى دمشق التي استقر فيها حتى وفاته في العام 2001، ظل يأمل بالعودة إلى مسقط رأسه. ويختتم أغنيته بالقول: «وداعاً إلى ذات يوم/ وداعاً صفد».
علاقة الفلسطينيين بالمدينة هي علاقة تتوزع بين الألفة والغربة، فمن ناحية حضورها والجانب المعماري والبيوت والحجارة هي فلسطينية في كل شيء، بل هناك من وصفها بالتالي: «كل ما فيها يصرخ بأنه فلسطيني». لكن من جهة اخرى لا بد من ان يرافق زائرها القادم من مدن فلسطينية مختلفة شعور «الغربة في البيت»، ومعظم من يزرها يفضل ألا يعود. «لشو وجع القلب؟»، يسأل أحدهم.
قبل الاحتلال في سنة 1948، كانت مدينة صفد مركزية لأنها المدينة الوحيدة في وسط العديد من القرى التي كانت تابعة لقضائها والتي هجرت القوات الصهيونية أكثر من 70 قرية منها. وقضاء صفد هو القضاء الأقرب إلى حدود لبنان، وقد تم تهجير أهلها إلى خارج فلسطين من جهة، وإلى داخل فلسطين من جهة اخرى.
في حديث مع شادي منصور (38 عاماً، ممرّض من قرية الجش)، قال إن مدينة صفد شكلت طوال الوقت مركزاً لأهالي قريته، يتوجهون إليها لتلبية احتياجاتهم. ويضيف: «بالنسبة إلينا، أهم شيء في صفد هو المستشفى، لأنه الأقرب إلينا. ولكون صفد قريبة من الجش فهي توفر أماكن العمل لجزء كبير من أهالي الجش في مجالات عديدة». إلى الجانب العملي من التعامل مع صفد، يعتبر منصور ان لصفد مكانة خاصة في ذاكرته، لأنه كان في صغره يتردد إلى شوارعها القديمة التي تحمله إلى مكان لا وجود له اليوم. ويضيف: «لكن صفد اليوم تتشح بلون المعاطف والقبعات السود، ولها رائحة عنصرية نشمها عن بُعد، للأسف».
ترتكز علاقة الفلسطينيين بمدينة صفد اليوم، وخاصة جيل الشباب منه، على العلاقة الأكاديمية، والحاجة التعليمية ما بعد المرحلة الثانوية. فمعظم الطلاب والطالبات في كلية صفد أتى من القرى الفلسطينية المجاورة، وهنالك طلبة من مدينتي الناصرة وشفا عمرو، ونسبة كبيرة من الجولان السوري المحتل. وتصل نسبة الطلبة الفلسطينيين في كلية صفد اليوم إلى 68%، وعددهم يصل إلى ما يقارب 1300 طالب وطالبة.
في حديث مع الطالبة خلود أبو أحمد من الناصرة والمقيمة في صفد منذ 3 سنوات لدراسة الحقوق، قالت: «فور الوصول إليها، تعطيك الشعور بأنها لو بقيت على ما كانت عليه، لأصبحت أجمل مدينة فلسطينية وأكثر جمالاً من حيفا وعكا». وتضيف: «العنصرية المتطرفة ورغبة الإسرائيليين في عدم رؤيتك فيها، يجعلان الوجود فيها متعباً، من تضييقات على الطلاب الفلسطينيين، لدرجة انهم طردوني مرة من بيت كنت قد استأجرته لأني عربية». لكن ما يجعلها تبقى فيها هذه السنوات كلها هو التحدي الذي تصفه بأنه «نضال من نوع آخر»، مضيفة: «هناك دائماً مضايقات لنا كفلسطينيين في الداخل، ونضالنا ان نبقى هنا. وجودنا هو بحد ذاته نضال. وصفد مدينة جميلة، حين أمشي في شوارعها كل ما فيها عربي وفلسطيني، ومن يسكنها الآن هم الغرباء عنها تماماً».
عن «الغربة» في صفد، يتحدث أيضاً الطالب ربيع صغيّر، الذي يأتي إليها من شفاعمرو اسبوعياً لحضور الحصص فيقول ان البيوت والمباني ما زالت واقفة كأنها تحكي، وكل ما في صفد باق على الحال التي هجر منها أهلها. ويضيف: «لكن البيوت يسكنها الإسرائيليون. والأسوأ من هذا، ان معظمهم اميركيون لا يتكلمون اللغة العربية. وأكثر ما يوجع القلب، حين تصادف إعلان ايجار لبيت مكتوب فيه: بيت عربي للإيجار او البيع». ويعتبر ربيع ان الكيان العربي تم حذفه من المدينة لكن معالمها كالجامع والسرايا والبيوت والزواريب القديمة بقيت كما كانت. لكن منذ ان فتحت الكلية أبوابها اصبح هناك وجود عربي من خلال الطلبة، و«كأننا فجأة وعينا على المدينة». لكن الزيارة او الإقامة محصورة بفئة من الناس، متحدثاً عن اشخاص زاروا صفد لمرة واحدة ولم يستطيعوا نفسياً العودة إليها، «من كثر ما الإشي بوجع القلب».
في محاولة للبحث عن شبان وشابات يسكنون مدناً او قرى بعيدة جغرافيا عن صفد، لكنهم زاروها مرة واحدة على الأقل، تحدّثت إلى منى أبو شحادة (من الناصرة) التي انهت تخصصها في الصحافة، وتستعدّ حالياً لشهادة في التاريخ والعلوم السياسية، وهي زارت صفد مرتين فقط. فتقول إن سبب الغربة عن صفد هو انها خالية من السكان الفلسطينيين، خلافاً لحيفا مثلاً التي تتردد عليها كثيراً لزيارة الأقرباء.
روان الشيخ أحمد (من قرية عبلين في الجليل) وهي طالبة في الصف الثاني عشر، تقول انها «شعرت ببرود واستغراب تجاه صفد». وتضيف: «في صفد كان الاستيطان مباشراً وتم القضاء على المعالم العربية كلها التي كانت موجودة»، مشيرة إلى مسؤولية المدارس العربية التي لا تذكر صفد كمدينة عربية فلسطينية.
ومن سخرية القدر ان تصريح رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس (أبو مازن) في مقابلة أجريت معه والذي يقول فيها: «من حقي أن أرى صفد لا أن أسكن بها»، لفت انتباهنا من جديد إلى أهميتها تاريخياً وفلسطينياً. وكان في الامكان قراءة مئات من المواقف عبر مواقع التواصل الاجتماعي المتعددة ووسائل الاعلام التي ذكرت فيها «صفد» وكأنها أصبحت رمزاً لجميع المدن والقرى الفلسطينية وفلسطين الحقيقية لا التاريخية فقط، وكذلك لحق العودة.
هذا كله يشير إلى المسؤولية التي ألقيت على من بقي في وطنه، فصار عليه أن يرتب زيارات عائلية او مدرسية نهاية الأسبوع فيها، حتى صنّاع الافلام الفلسطينية بات عليهم اليوم تصوير أفلامهم في أحيائها لإيصال صورة المدينة العربية والفلسطينية الى اذهان الناس في فلسطين والشتات، حتى لا يبقى من يقول: «غريب أنا يا صفد».


تعليقات

  1. زغرودة حلوة... رنت في بيتنا.. من عكا الى صفد..!!
    اطلقتها مدوية الصحافية رشا حلوة في مدونتها عن صفد المدينة الجميلة الوديعة عاصمة الشمال التي هُجرنا منها عام ١٩٤٨وكان عمري آنذاك ١٢ عاما. ومنذ ذلك الوقت وصفد حاضرة في ذاكرتنا وقلوبنا تماما كما وصفتها باسهاب وصدق رشا التي تستحق منا ومن ملتقى الصفديه زغرودة طويلة تقديرا لمدونتها عن اهمية صفد التي اصبحت مركزا صحيا للقرى العديدة التابعة لها وثقافيا لشباب وصبايا فلسطين العرب الذين يلتحقون بكليتها للدراسة الجامعية والتي تحتل حاليا الموقع الذي كان يُعرف لجيلنا بالمنزل او السرايا القديمة..
    وما يثير الاعجاب هو ان وجود هذه الكلية وطلابها العرب البالغ عددهم 1300 يساهم.. ولو بقدر ضئيل.. في الحفاظ على عروبة صفد التي حاول الصهاينة طمس كل معالم عروبتها..!! ولن يفلحوا ...ولسوف تستعيد صفد عروبتها وتتحرر من رجس الصهاينة مهما طال الزمن... ومهما بلغت التضحيات..!!

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

عن "البحر بيضحك ليه؟" ومراحل الحياة..

عكّا، بعدسة: نادر هواري أغنية "البحر بيضحك ليه"، من كلمات الشّاعر نجيب سرور، ألحان وغناء الشّيخ إمام عيسى، هي الأغنية الملائمة لكلّ مراحل الحياة. لا يهم المرحلة إنّ كانت سعيدة أو حزينة، فيها أمل أو خيبة، قلق أو راحة، كلما سمعتها تشعر بأنها تُغنى لك. تحكي معك.. الأغنية لا علاقة لها لمن يعرف البحر أو لا يعرفه، سواء كان البحر قريبًا أو وبعيدًا.. هي قادرة أن تحمل لك مشاهد بصريّة مختلفة كلما سمعتها، تحمل معها وجوهًا عديدة وذكريات.. وكأنك كلما تسمعها تشعر بأن الزّمن توقف. لا يتحرك. كأن حالتك المرافقة لها حين سمعتها قبل 5 أعوام، مع ناس أو من غيرهم، تشبه حالتك حين تعيد سماعها اليوم، لوحدك أو مع آخرين.. والأجمل، بأنك تدرك تمامًا بأن حالتك هي، المرافقة لسماع الأغنية، تمامًا كما الملايين من عشاق الأغنية ذاتها. هي أغنية الطبطبة على الروح.. وحاملة المقولة الوجوديّة الأبديّة: ولسّه جوا القلب أمل.

أحد أطفال "كفرون"؛ يزن أتاسي: "نحنا ما منشبه بعض"

حاورته: رشا حلوة كان ذلك في العام 1990، حين قال له والده: "بدنا نروح مشوار"، لم يخبره إلى أين، "كنت رفيق أبي كتير وأنا وصغير، بروح معه على الشغل، وقالي رايحين مشوار، وبشكل طبيعي ركبنا بالسيارة، وصلنا على مكان قريب من مدرستي وفتنا على بناية، بكتشف بعد ما فتت إننا وصلنا على مكتب دريد لحّام"، يقول الفنان السوري يزن أتاسي في حوار خاص لمجلة "الحياة"، أجريناه عبر السكايب. ويزن أتاسي (1980) هو أيضاً "وسيم"، أحد الأطفال الذين مثلوا أدوار البطولة في فيلم "كفرون" لدريد لحّام، الذي سيتمحور معظم حديثنا عن تجربته فيه، التجربة الشخصية والفنّية لطفل في فيلم سوري، قبل 24 عاماً، كان لها أحد التأثيرات الكبرى على جيل كامل عاش طفولة التسعينيات. " هنالك معرفة بين دريد وأبي"، يقول يزن، "بس أنا انسطلت، لأنه أول مرة بحياتي بشوفه وجهاً لوجه، هني بحكوا وأنا مسحور لأني قاعد قدام غوار الطوشة!". بعدها خرجا من المكان، لا يذكر يزن الحديث الذي دار بين والده ودريد لحّام، ويعتقد أيضاً أنه كان قد قابل أخته نور أتاسي قبله، وهكذا وقع القرا

ريم بنّا.. التهليلة الفلسطينية الباقية

(رشا حلوة ) أذكر أني سمعت الفنانة الفلسطينية ريم بنّا لأول مرةٍ حين كان ربيعي يلامس العشرة أعوام، لا أعلم كيف وصل كاسيت "الحلم" إليّ، أو ربما لا أذكر. كان الوقت صيفًا في عكا، في غرفتي المطلة على البحر. أذكر بأني ناديت على أمي لتشاركني سماع الكاسيت، فسمعنا سويةً "يا ليل ما أطولك" وبكتْ أمي حين أخذتها التهليلة إلى كل الحنين الذي حملته معها منذ أن هُجّر أبوها من قريته الجليلية حتى ساعة انتظار العودة، التي طالت. ترتبط ريم بنّا في روحنا وذائقتنا بالتهليلة الفلسطينية والمورث الشعبي الفلسطيني. فهي أول من أعادت غناء وإحياء التهليلة الفلسطينية واحترفتها حتى يومنا هذا، بما في ذلك ضمن ألبومها الأخير "مواسم البنفسج- أغاني حُب من فلسطين"، والذي يحتوي على تهليلة "أمسى المسا"، المرفوعة إلى اللاجئين الفلسطينيين. بدأت ريم تهتم بالغناء التراثي الفلسطيني حين كانت لا تزال في المدرسة، يوم طُلب منها أن تحفظ أغاني تراثية لمهرجان تراثي في مدرستها، ونصحتها والدتها الشاعرة زهيرة صبّاغ أن تغني التهليلة الفلسطينية التي لم يغنّها أحد بعد. شعرتْ وقتئذٍ أن التهاليل تلائم صوتها