التخطي إلى المحتوى الرئيسي

ماذا وجدت وسط الكارثة



رشا حلوة

في بحثي المستمر، الرسمي وغير الرسمي، ذلك الذي أخصص له مساحة مباشرة في كتاباتي وعملي الصحفي، أو بين السطور، عن كيف تحملنا الكوارث؛ تلك السياسية والاجتماعية وحتى الشخصية إلى طرق بإمكاننا أحياناً، بعد سنوات أو أشهر أو أيام، أن نرى شيئاً مضيئاً فيها، أو ليس بالضرورة أن يكون مضيئاً، لكن على الأقل أن نلمس فيها معنى ما، أي معنى - في بحثي هذا، التقي بغرباء، أصدقاء وعائلة، أكتب من حواراتي معهم/ن القليل على ورق، أقصد اللاب توب، وأكثر أحملها معرفة وحكمة للحياة، أحياناً لا أشاركها مع أحد.
اليوم، وأنا أنظر إلى سنوات من الكتابة، حفرت - وما زلت - في تاريخ عائلتي وبلدي وناسي في فلسطين، تحدثت إلى صديقات وأصدقاء فُرض عليهم/ن مغادرة أوطانهم/ن، في سوريا أو مصر أو تونس أو إيران، التقيتهم/ن افتراضياً أو حقيقة في برلين، البلد الذي قررت الاستقرار فيه بعد فلسطين. عرفت قصصاً لم أكن لأعرف بوجودها لو لم تحدث هذه اللقاءات، التي كان للصدفة مساحة فيها أيضاً. وفي جميعهم، وفي وسط الحزن والكارثة التي تحملها القصص، كان معنى ما، حسب الرواة، وكان المعنى هو ما يضيء. وليس في قصتي هذه أي "كليشيه".
انتقلت من عكا إلى برلين عام 2017، في بحثٍ عن بيت يشبه ذلك الذي يعيش في عالمي الموازي، حيث سهولة الوصول إلى قصص، وما يصدر عن الكوارث من حِكَمٍ، خارج الحيز الجغرافي الذي يسيطر عليه الاستعمار الإسرائيلي. لم أكن أتخيّل أن بعد ثلاث سنوات بالضبط، أن غرفتي في برلين بإمكانها أن تكون غرفة في أي مكان بالعالم، حيث كل التواصل مع الخارج يحدث عبر شاشة الهاتف واللاب توب، مع القريبات/ين والبعيدات/ين. كانت بداية الجائحة وما فرضتها الدول من قيود، كعقاب إلهي لمن هن مثلي، يعشن خارج بيوتهن أكثر من داخلها، فالبيوت بإمكانها أن تكون الناس والحدائق وبار نحبّه وحوار مع صديق أو قبلة بجانب النهر. والبيوت، أي تلك التي مع باب وشبابيك وسقف وجدران، هي للنوم، وبخاصة لمن يعشن وحدهن.
بعد مرور شهر واحد على الحجر الصحي في برلين، انتقلت من بيت مع شركاء إلى بيت لوحدي. لمّح بعض الأصدقاء أن توقيتي للانتقال للسكن وحدي "غريب بعض الشيء". خاصة أني لوحدي فعلاً، لا من حبيب أو عاشق وزيارات الصديقات والأصدقاء ممنوعة داخل البيوت. ومن لمّح بالاستغراب، يعرفني. لكني، نظرت إلى "العقاب الإلهي" وقبلت التحدي!
مع قبول تحدي العزلة المدموجة بين المفروضة والاختيارية، كنت أصلي سراً. عرفت - كما جميعنا - حتى لو أنكرنا، أن العالم لن يكون على ما كان عليه ما قبل كورونا. بدأت باختبار مشاعر ومخاوف، أعرف أنها موجودة، لكن ليس على جسدي ونفسي. لأسباب عديدة، كانت تجربة معاشة أولى. وداخلي، كنت أتمنى، بصمت، كصلاة سرية غير مكتوبة على جدران فيسبوك وستوريز الانستغرام، أن تأتي كارثة العالم الجديدة هذه، بثمار طيبة وحنونة على قلبي، ولو ثمرة واحدة فقط.
لم يمرّ وقتاً طويلاً حتى استجيبت صلواتي. فجاءت الاستجابة بعودة حبيب قديم إلى حياتي! (لو كنت أصلي كل يوم، قلت).
المهم، عاد الحبيب إلى حياتي. بفضل كورونا والصمت والعزلة، ومساحات التفكير التي يمنحها الملل والأسئلة العميقة عندما تتوقف المدن عن عملها اليومي في جعلنا نخاف أن نخسر شيئاً ما خارج البيت. فعبّرنا - أنا والحبيب - عن أشواقنا وأحلامنا، وتحدثنا عن كيف أصبح كل ما هو خارج المنزل غير مضمون. وأسئلة كالتالي: ما هي المدن؟ ولماذا نهاجر؟ وأين بيوتنا؟ وما هو البيت أصلاً؟ وعن الروائح والأكل والكثير من الموسيقى. وهل تريدين عائلة؟ وهل تريد أن تصبح أباً؟ وأنا غريبة يا حبيبي. مع الكوارث أريد أن أصبح أماً أكثر. وهوب! انتهى الحجر الصحي.
حجزت بطاقة قطار، عندها، لم تكن قد عادت القطارات المباشرة بعد (بسبب الحجر الصحي)، فكان عليّ أن أحجز تذكرة سفر لقطارات عديدة وأغيّر ثلاث محطّات. لم أتذمر، ليس فقط لأني ذاهبة للقاء حبيبي، لكن لأن السفر بعد الحجر الصحي، أياً كان، هو نعمة!
وأنا، أحبّ السفر في القطارات لأن الشبابيك مفتوحة على الطبيعة والخيال، والكراسي مريحة (نوعاً ما)، وهذا مفيد للخيال أيضاً، وبإمكاني أن أكتب على دفتر أو لاب توب، وفي معظم القطارات فيها إنترنت، وبإمكاني أن أقرأ وأنام… لكني لم أفعل أياً منها في ذلك اليوم. منذ لحظة خروج القطار من برلين مروراً بكل المحطّات وقبل أن أصل إلى المحطة المركزية في أمستردام، أردت فقط أن أصل وأراه. ولم أكن خائفة.
وصلت في ساعة متأخرة من الليل، ومنذ أن التقينا من جديد، عرفنا إلى أين نحن ذاهبان. والله. كان الطريق الذي رأيناه هو اليقين الوحيد في وسط عالم كامل (من ضمنه نحن) يرتجل طرق إنقاذ من كورونا.
وفي وسط كل هذا، قررنا تأسيس عائلة وأن نبني بيتاً، ونريد أطفالاً بالطبع، وتحدثنا عن آثاث الغرف، وكذلك قررنا أن نتزوج، ولم نكذب خبراً، فتزوجنا! وانتقلنا للسكن في بيتنا سوية في أمستردام بالقرب من النهر (كل المدينة فيها أنهر يعني)، ولأخفف حزني على ابتعادي عن برلين، وأسباب عديدة أخرى، أقول لنفسي: "أنا من مدينة جميلة كعكّا، وأستحق أن أعيش في مدينة جميلة كأمستردام". للأمانة، النهر ليس البحر الأبيض المتوسط، لكن وجود سمك طازج في مدينة أوروبية هو أمر مغرٍ، لا يُقارن بسمك عكّا، لكنه سبب مهمّ لأن تقع في حبّ مدينة وتقرر أن تبني بيتاً فيها.
في بحثي المستمر عن معنى الكوارث، كنت أبحث عن بيوت وأنا أترك من خلفي بيوتاً أخرى، تلك التي سأعود إليها وتلك التي لا يمكن لي العودة إليها وتلك التي لا أريد العودة إليها أصلاً. من ضمن هذه الأقسام، أكثر ما يخيفني عندما تتحكم الكوارث في طرقنا. تضيف حواجزاً أكثر على ما هو موجود، وأقساها - ربما - تلك الحواجز التي بُنيت لأسباب غير مرئية، مع أنها في الأول والآخر، من صُنع الإنسان.
كأن الكارثة التي لا تراها العين المجردة اليوم، تُحضر إلى حيواتنا كل الكوارث الموروثة أو التي لم نعشها مباشرة، من قصص جدتي في فلسطين عن تهجيرها من قريتها مروراً بقصة حبيبي الهارب وأمّه طفلاً عبر جبال إيران من بطش نظام ديكتاتوري، إلى قصص أصدقائي الذين يشتاقون للمكدوس من أيادي أمهاتهم في دمشق وغيرها… كورونا، هو تجسيد غير مرئي لكوارث نعرفها، وتلك التي لم نسمع عنها بعد، واليوم، على الأقل أنا وكثيرين أحبهم نعيش أبعادها وأثرها وأسئلتها ومخاوفها في أماكن عديدة من العالم.
لكن، في بحثي المستمر عن المعنى في الكوارث، الماضية والتي نعيشها اليوم، وفي وسط الكوراث أيضاً، وجدت الحب صافياً، حاضراً، بيتاً طيباً وحنوناً، ولا يخيفه شيئاً. وهذا ليس "كليشيهاً".
✰✰✰✰
نصّي في العدد الجديد من مجلّة 28
العدد من إعداد وتحرير العزيزة داليا طه

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

عن "البحر بيضحك ليه؟" ومراحل الحياة..

عكّا، بعدسة: نادر هواري أغنية "البحر بيضحك ليه"، من كلمات الشّاعر نجيب سرور، ألحان وغناء الشّيخ إمام عيسى، هي الأغنية الملائمة لكلّ مراحل الحياة. لا يهم المرحلة إنّ كانت سعيدة أو حزينة، فيها أمل أو خيبة، قلق أو راحة، كلما سمعتها تشعر بأنها تُغنى لك. تحكي معك.. الأغنية لا علاقة لها لمن يعرف البحر أو لا يعرفه، سواء كان البحر قريبًا أو وبعيدًا.. هي قادرة أن تحمل لك مشاهد بصريّة مختلفة كلما سمعتها، تحمل معها وجوهًا عديدة وذكريات.. وكأنك كلما تسمعها تشعر بأن الزّمن توقف. لا يتحرك. كأن حالتك المرافقة لها حين سمعتها قبل 5 أعوام، مع ناس أو من غيرهم، تشبه حالتك حين تعيد سماعها اليوم، لوحدك أو مع آخرين.. والأجمل، بأنك تدرك تمامًا بأن حالتك هي، المرافقة لسماع الأغنية، تمامًا كما الملايين من عشاق الأغنية ذاتها. هي أغنية الطبطبة على الروح.. وحاملة المقولة الوجوديّة الأبديّة: ولسّه جوا القلب أمل.

أحد أطفال "كفرون"؛ يزن أتاسي: "نحنا ما منشبه بعض"

حاورته: رشا حلوة كان ذلك في العام 1990، حين قال له والده: "بدنا نروح مشوار"، لم يخبره إلى أين، "كنت رفيق أبي كتير وأنا وصغير، بروح معه على الشغل، وقالي رايحين مشوار، وبشكل طبيعي ركبنا بالسيارة، وصلنا على مكان قريب من مدرستي وفتنا على بناية، بكتشف بعد ما فتت إننا وصلنا على مكتب دريد لحّام"، يقول الفنان السوري يزن أتاسي في حوار خاص لمجلة "الحياة"، أجريناه عبر السكايب. ويزن أتاسي (1980) هو أيضاً "وسيم"، أحد الأطفال الذين مثلوا أدوار البطولة في فيلم "كفرون" لدريد لحّام، الذي سيتمحور معظم حديثنا عن تجربته فيه، التجربة الشخصية والفنّية لطفل في فيلم سوري، قبل 24 عاماً، كان لها أحد التأثيرات الكبرى على جيل كامل عاش طفولة التسعينيات. " هنالك معرفة بين دريد وأبي"، يقول يزن، "بس أنا انسطلت، لأنه أول مرة بحياتي بشوفه وجهاً لوجه، هني بحكوا وأنا مسحور لأني قاعد قدام غوار الطوشة!". بعدها خرجا من المكان، لا يذكر يزن الحديث الذي دار بين والده ودريد لحّام، ويعتقد أيضاً أنه كان قد قابل أخته نور أتاسي قبله، وهكذا وقع القرا

ريم بنّا.. التهليلة الفلسطينية الباقية

(رشا حلوة ) أذكر أني سمعت الفنانة الفلسطينية ريم بنّا لأول مرةٍ حين كان ربيعي يلامس العشرة أعوام، لا أعلم كيف وصل كاسيت "الحلم" إليّ، أو ربما لا أذكر. كان الوقت صيفًا في عكا، في غرفتي المطلة على البحر. أذكر بأني ناديت على أمي لتشاركني سماع الكاسيت، فسمعنا سويةً "يا ليل ما أطولك" وبكتْ أمي حين أخذتها التهليلة إلى كل الحنين الذي حملته معها منذ أن هُجّر أبوها من قريته الجليلية حتى ساعة انتظار العودة، التي طالت. ترتبط ريم بنّا في روحنا وذائقتنا بالتهليلة الفلسطينية والمورث الشعبي الفلسطيني. فهي أول من أعادت غناء وإحياء التهليلة الفلسطينية واحترفتها حتى يومنا هذا، بما في ذلك ضمن ألبومها الأخير "مواسم البنفسج- أغاني حُب من فلسطين"، والذي يحتوي على تهليلة "أمسى المسا"، المرفوعة إلى اللاجئين الفلسطينيين. بدأت ريم تهتم بالغناء التراثي الفلسطيني حين كانت لا تزال في المدرسة، يوم طُلب منها أن تحفظ أغاني تراثية لمهرجان تراثي في مدرستها، ونصحتها والدتها الشاعرة زهيرة صبّاغ أن تغني التهليلة الفلسطينية التي لم يغنّها أحد بعد. شعرتْ وقتئذٍ أن التهاليل تلائم صوتها