التخطي إلى المحتوى الرئيسي

"فوكس" بار، عفويّة الثقافة الإيطاليّة في برلين




برلين – رشا حلوة

بالقرب من محطّة "هرمان بلاتس" في حيّ "نويكولن" البرلينيّ، وفي شارع فرعيّ تصل نهايته إلى النهر، هناك بار صغير يحمل الاسم "فوكس"، شبابيكه الكبيرة على الشّارع، التي تطلّ منها تفاصيل البار؛ كراسيه وكنباته القديمة، إضاءته الخفيفة، الشموع، ولون الحيطان الأخضر، كلّها محفزة لزيارة الجوّ "البيتوتيّ" هذا.

بالإضافة إلى جوّه الحميميّ، زيارة البار منوطة بالاستماع دومًا إلى موسيقى خاصّة من كلّ العالم، مع تسليط ضوء على الموسيقى الإيطاليّة. نسمّيه البار الإيطاليّ، ليس بسبب الموسيقى فقط، إنّما بالأساس لأن صاحب البار هو إيطاليّ الهويّة، كما أنّ معظم العاملين والعاملات في البار جاءوا من مناطق مختلفة في إيطاليا إلى برلين، كما أن جمهوره في غالبيته من الإيطاليّين/ات الذين يعيشون في المدينة، واللغة الإيطاليّة حاضرة دومًا.

صاحب البار اسمه ماسيمو فينكو، مواليد العام 1979 في فيرونا الإيطاليّة، هو فنان وموسيقيّ وكاتب أغاني، وصل إلى برلين في العام 2006 للعمل كفنان، وبموازاة ذلك عمل عندها في وظائف عديدة، تنظيف مواعين في المطاعم ومن ثم طباخًا، وكان باره المفضل هو "فوكس" قبل أن يصبح ملكه، فعندما قرر صاحبه الأوّل أن يتركه في العام 2010، اقترح على ماسيمو أن يستلّمه، عندها، لم يرغب ماسيمو بأن يفتح بارًا، فقرر أن يأخذ المكان ويحوّله إلى محترفه الشخصيّ، ليرسم ويقضي وقتًا فيه.
أصبح يستخدم المكان كمحترف، وبدأ أصدقائه بالانضمام أحيانًا، حاملين آلاتهم الموسيقيّة ويقضون لياليّ "بيتيّة" فيه، إلّا أن قرر أن يفتحه بارًا موسيقيًا، فيه بيانو ومساحة لأي موسيقيّ يرغب بالعزف، والأهم، بأن كل العاملين في البار هم موسيقيّين بحرفتهم. عن هذا يقول ماسيمو في حديث خاص: "لم يكن هذا الأمر مقررًا أو مخططًا، بمعنى أن يكون العاملين موسيقيّين، إنما حصل مع الزّمن ومع العلاقات الاجتماعيّة بحكم أنّي موسيقيّ، والبار أصبح بمثابة مغناطيس للموسيقيّين، نقدّم عروضًا موسيقيّة فيه، وهنالك من يأتي ويطلب أن يعزف مقطوعة موسيقيّة أو أكثر، والجميع مرحّب به".

يعيش ماسيمو اليوم بين مدينتيْن، برلين المدينة التي فيها البار، حيث يقضي نصف أيام الأسبوع فيه، يعمل خلف البار ويرسم في محترفه القابع تحت الأرض، ينزل إليه من باب أرضيّ صغير، بسلّم خشبيّ إلى الأسفل، حيث ألوانه ولوحاته غير المنتهي منها بعد، أما اللوحات الأخرى فهي معلّقة على جدران البار. والبيت الثاني، فهو مع زوجته التي تعرّف إليها مع افتتاح البار، وابنه البالغ من العمر 6 سنوات، في مدينة هايلبرون في جنوب ألمانيا.

"البار مثل عقلي"، يقول ماسيمو"، ويتابع: "عقلي الخارجي، كل شيء هُنا، صبري تجاه الحياة، ما أحب ولا أحبه، إن أردت أن تعرفي ما في عقلي، تعالي إلى هُنا، فوكس هو تمامًا مرآة له مع الناس التي فيه وتفاصيله كلّها، هو مكان فقير، لكنه لطيف ومليء بالموسيقى".

جاء ماسيمو من بلد صغير في إيطاليا، ويعتبر برلين بأنها المدينة، عن هذا يقول: "عندما تأتين من مدينة صغيرة، من الريف، يكون لديك الفضول لزيارة المدن الكبيرة التي تعرفينها من الأفلام، تتخيلين أن في المدينة الكبيرة تحدث الحياة، برلين بالنسبة لي هي المدينة في العالم، على الرغم بأني عشت وزرت مدنًا عديدة، لكن لا من مدينة تعيش فيها ثقافات العالم كلّه مثل برلين".

اختتامًا لحديثنا، ذكر ماسيمو أن أشياء كثيرة جميلة حصلت له مع البار، أهمها بأنه تعرّف إلى صديقته والتي أصبحت فيما بعد زوجته ووالدة طفله، كما أنه تحدث عن والديه اللذان يعيشان في الريف الإيطاليّ، وبالأساس عن ذكرياته مع بيت العائلة حيث كان مفتوحًا للناس دومًا، عندها، أزعجه هذا الاحتضان من والديه للناس، وإمكانية أن يأتي الزائرون إليه متى شاءوا، ويضيف: "كان الأمر مزعجًا لسنوات طويلة، ومع الوقت، شعرت تأثير هذه الحقيقة على نفسي إيجابيًا، اليوم، أرحّب بالناس من أجل النقود، لكن والدي يفعلان ذلك بشكل طبيعيّ"، يضحك ماسيمو ويتابع: " أعلّم اليوم أن ما كنت أكرهه بوالديّ، هو ما يساعدني في حياتي".

من ضمن الزائرين الدائمين لـ "فوكس" بار، هو جوزِبيه بريفتيرا (بِيبِه)، معماريّ من باليرمو في إيطاليا، ومقيم في برلين منذ العام 2012. كان قد وجد جوزبيه بيته الكائن في نفس بناية بار "فوكس" خلال الفترة الأولى من وصوله إلى المدينة، لم تكن بارات عديدة في الشّارع، وعلّم بأن هنالك بار صاحبه إيطاليّ، ومنذ لحظة دخوله لأوّل مرة إلى المكان، يقصده يوميًا، بعد ساعات الدوام، وقبل أن يخرج للقاء أصدقاء، أو وحده لزيارة ماسيمو والأصدقاء العاملين فيه.

في لقاء معه، قال: "جئت من باليرمو، وفي أشهر أحيائها توجد بارات عديدة بنفس روح فوكس بار، تذهبين هناك لتشربي البيرا بسعر قليل بلا أن تتفقي على موعد مع أحد، لكن منذ أن تصلي إلى هناك، تجدين أشخاص كثيرين تعرفينهم، في حياتي ببرلين، أشتاق كثيرًا لهذه العفويّة بلقاء الناس، وهي موجودة بالفعل في هذا البار، مثلما هي في باليرمو".

في علاقته مع البار، وبالإضافة إلى لقاء الأصدقاء بشكل عفويّ، يرى جوزبيه بأنه المكان الذي يتيح الحديث مع الغرباء، ويضيف: "في إحدى المرات، كنت جالسًا وحدي، وتعرّفت إلى امرأة وبدأنا بالحديث، مع الوقت، أصبحت من أقرب صديقاتي، وعلى الرّغم من أني أحبّ بارات عديدة في برلين، وكلّها جميلة، لكني لا أرتاح بالحديث مع غرباء مثلما أرتاح هُنا، أشعر بأن الأمر مسموحًا في فوكس".

كلاهما، ماسيمو وجوزبيه، لم يطلقان على "فوكس" اسم البار الإيطاليّ، على الرّغم من إدراكهما بأن هويّة بلدهما وناسه حاضرة فيه، بتنوعها، من خلال القائمين عليه والعاملين فيه، جمهوره وكذلك موسيقاه، وبالتالي، كل هذه التفاصيل يلمسها الزائرون/ات، ويُطلقون على المكان الاسم الذي حملهم إليه، عن هذا يقول جوزبيه: "فوكس ليس مكانًا نلتقي فيه فقط، إنما هو مكان لديه ما يمنحه لهذه المدينة".








تعليقات

  1. اغبطك على نتقلك المكاني. وصلت إلى صفحتك لأنني كنت أبحث عن كاتبة فلسطينية تعيش في ألمانيا، في وقت تنخرني الوحدة فيه والبؤس. شكلك غجري وجميل، لكن لا بد أن غارقة في تفاصيل يومية حد أنك لا تستطيعين (حك) شعرك. هل من الصعب أن نتبادل أحاديث جانبية عن الدنيا والنفس وأشياء صغيرة حيوية ومهمة؟؟ سأنتظر ردك

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

عن "البحر بيضحك ليه؟" ومراحل الحياة..

عكّا، بعدسة: نادر هواري أغنية "البحر بيضحك ليه"، من كلمات الشّاعر نجيب سرور، ألحان وغناء الشّيخ إمام عيسى، هي الأغنية الملائمة لكلّ مراحل الحياة. لا يهم المرحلة إنّ كانت سعيدة أو حزينة، فيها أمل أو خيبة، قلق أو راحة، كلما سمعتها تشعر بأنها تُغنى لك. تحكي معك.. الأغنية لا علاقة لها لمن يعرف البحر أو لا يعرفه، سواء كان البحر قريبًا أو وبعيدًا.. هي قادرة أن تحمل لك مشاهد بصريّة مختلفة كلما سمعتها، تحمل معها وجوهًا عديدة وذكريات.. وكأنك كلما تسمعها تشعر بأن الزّمن توقف. لا يتحرك. كأن حالتك المرافقة لها حين سمعتها قبل 5 أعوام، مع ناس أو من غيرهم، تشبه حالتك حين تعيد سماعها اليوم، لوحدك أو مع آخرين.. والأجمل، بأنك تدرك تمامًا بأن حالتك هي، المرافقة لسماع الأغنية، تمامًا كما الملايين من عشاق الأغنية ذاتها. هي أغنية الطبطبة على الروح.. وحاملة المقولة الوجوديّة الأبديّة: ولسّه جوا القلب أمل.

أحد أطفال "كفرون"؛ يزن أتاسي: "نحنا ما منشبه بعض"

حاورته: رشا حلوة كان ذلك في العام 1990، حين قال له والده: "بدنا نروح مشوار"، لم يخبره إلى أين، "كنت رفيق أبي كتير وأنا وصغير، بروح معه على الشغل، وقالي رايحين مشوار، وبشكل طبيعي ركبنا بالسيارة، وصلنا على مكان قريب من مدرستي وفتنا على بناية، بكتشف بعد ما فتت إننا وصلنا على مكتب دريد لحّام"، يقول الفنان السوري يزن أتاسي في حوار خاص لمجلة "الحياة"، أجريناه عبر السكايب. ويزن أتاسي (1980) هو أيضاً "وسيم"، أحد الأطفال الذين مثلوا أدوار البطولة في فيلم "كفرون" لدريد لحّام، الذي سيتمحور معظم حديثنا عن تجربته فيه، التجربة الشخصية والفنّية لطفل في فيلم سوري، قبل 24 عاماً، كان لها أحد التأثيرات الكبرى على جيل كامل عاش طفولة التسعينيات. " هنالك معرفة بين دريد وأبي"، يقول يزن، "بس أنا انسطلت، لأنه أول مرة بحياتي بشوفه وجهاً لوجه، هني بحكوا وأنا مسحور لأني قاعد قدام غوار الطوشة!". بعدها خرجا من المكان، لا يذكر يزن الحديث الذي دار بين والده ودريد لحّام، ويعتقد أيضاً أنه كان قد قابل أخته نور أتاسي قبله، وهكذا وقع القرا

ريم بنّا.. التهليلة الفلسطينية الباقية

(رشا حلوة ) أذكر أني سمعت الفنانة الفلسطينية ريم بنّا لأول مرةٍ حين كان ربيعي يلامس العشرة أعوام، لا أعلم كيف وصل كاسيت "الحلم" إليّ، أو ربما لا أذكر. كان الوقت صيفًا في عكا، في غرفتي المطلة على البحر. أذكر بأني ناديت على أمي لتشاركني سماع الكاسيت، فسمعنا سويةً "يا ليل ما أطولك" وبكتْ أمي حين أخذتها التهليلة إلى كل الحنين الذي حملته معها منذ أن هُجّر أبوها من قريته الجليلية حتى ساعة انتظار العودة، التي طالت. ترتبط ريم بنّا في روحنا وذائقتنا بالتهليلة الفلسطينية والمورث الشعبي الفلسطيني. فهي أول من أعادت غناء وإحياء التهليلة الفلسطينية واحترفتها حتى يومنا هذا، بما في ذلك ضمن ألبومها الأخير "مواسم البنفسج- أغاني حُب من فلسطين"، والذي يحتوي على تهليلة "أمسى المسا"، المرفوعة إلى اللاجئين الفلسطينيين. بدأت ريم تهتم بالغناء التراثي الفلسطيني حين كانت لا تزال في المدرسة، يوم طُلب منها أن تحفظ أغاني تراثية لمهرجان تراثي في مدرستها، ونصحتها والدتها الشاعرة زهيرة صبّاغ أن تغني التهليلة الفلسطينية التي لم يغنّها أحد بعد. شعرتْ وقتئذٍ أن التهاليل تلائم صوتها