القاهرة
– رشا حلوة
زرت القاهرة
مرات عديدة، وزياراتها كانت طوال الوقت عبارة عن مطلّ على الحياة فيها، وخاصة حياة
ناسها، لإيماني أن المدينة هي "حاجات كتيرة" ممزوجة بتفاصيل سكانها. كانت
زيارتي لمواقع تاريخيّة وأثريّة مرافقة بكثافة للزيارة الأولى مع عائلتي في العام
1995، ومن بعدها، كانت الشّوارع، قصص الناس وأحاديثهم، المقاهي والبيوت، بمثابة
شبابيك واسعة لمعرفتي عن هذا البلد.
خلال زيارتي هذه
إلى القاهرة في ربيع العام 2014، قررت أن أذهب إلى متحف "أم كلثوم"،
الموجود في شارع "الملك الصالح" وفي جزيرة "المنيل روضة" في
النيل، والمتحف هو أحد مباني "قصر
المانسترلي"،
والمنطقة معروفة أيضًا بإسم "المقياس"، لوجود مقياس النيل الشهير، حيث
كان يُستخدم لقياس منسوب نهر النيل. مساحة المتحف هي عبارة عن 250 مترًا، وكانت قد
فتحت أبوابه وزارة الثقافة المصريّة في عام 1998، على أن يكون متحفًا "يليق
بعطائها، يحمل اسمها الخالد، ليصبح منارة إشعاع فنّيّة وثقافيّة".
قاعات
المتحف ومضمونها
في المتحف، ثلاث
قاعات أساسيّة، الأولى هي التي تحتوي على فاترينات تضم مقتنيات "السّت"
الشخصيّة، أوسمة تقدير من دول عربيّة عديدة، رسائل من زعماء سياسيّين في العالم
العربيّ وقصائد الشعراء التي كتبوها بخطوط أياديهم والمزيد، القاعة الثانيّة وهي
"قاعة سينما"، يُعرض فيها فيلم تسجيليّ عن "أم كلثوم"
لمقتطفات من حياتها ومقاطع من أفلامها السينمائيّة وحفلاتها في مصر وخارجها، أمّا
القاعة الثالثة فهي "قاعة بانوراما"، تعرض فيها مجموعة من صور "السّت"
عبر مراحلها الحياتيّة وصورها مع فنانين وسياسيّين، كل هذا بالإضافة إلى مجموعات صور
معلّقة على حيطان المتحف والتي تضم صورًا عديدة لكوكب الشرق بطريقة "الكولاج".
من جهتي، كانت
القاعة الأكثر أهمية بالمطلق، هي القاعة الرئيسيّة والفاترينات التي تضمها. دخلت
المتحف، وكانت الفاترينا الأولى لاستقبالي، هي فاترينة "الفساتين".
مجموعة من فساتين "السّت" التي ارتدتها في الحفلات أو حين غنّت إحدى
الأغاني. من اليمين الفستان الذي غنّت به "الأطلال"، الثاني هو الفستان
الذي أحيت به حفلة باريس في تشرين الثاني/ نوفمبر 1967، الثالث الفستان الذي غنّت
به "يا مسهرني"، يليه الفستان الذي غنّت به "هذه ليلتي"، من
ثم فستان سهرة، ومن ثم الذي غنّت به "فكروني" والأخير هو الذي غنّت به
"سيرة الحبّ".
في فاترينا ثانيّة،
وُضعت كل القلادات والأوسمة والنياشين التي قدّمتها لها دول عربية عديدة، فنجد
"نيشان الكمال المصري" للعام 1946، "وسام لبنان من الدرجة
الأولى"، "وسام المملكة العراقية"، "وسام الامتياز
الباكستاني"، "وسام الكفاءة الفكرية" من المملكة المغربية،
"وسام الاستحقاق السوري"، "قلادة النيل" وكذلك وسام مهدى من
أحد المواطنين المصرييّن.
في فاترينا
ثالثة، وهي الأقرب إلى قلبي، وُضعت مقتنيات "الست" الخاصة، مثل
"مفكرتها اليوميّة" من عام 1954، "بطاقة عضويّة خاصة لنادي
الطيران"، جوازات سفرها، ومفكرة يوميّة أخرى من عام 1965، كتبت عليها بخط
يدها، في تاريخ 7 كانون الثاني/ يناير 1956:"كانت كلها بديعة جدًا. سيرة الحبّ
ثاني مرة. أراك عصي الدمع ثاني مرة. للصبر حدود"، وذلك بإشارة إلى الأغاني
التي غنّتها في الحفلة آنذاك، بالإضافة إلى نظاراتها.
في فاترينا
رابعة، نجد إعلانًا عن حفلة لها في "مسرح رمسيس"، آلة العود الشخصيّة،
المكتوب عليها: "لا يُعرف المرء في عصره" و"الهلال الماسي"
الذي كانت تضعه على فساتينها في حفلات عديدة لها. يليها فاترينا رسائل الزعماء
السياسيين المصريين والعرب؛ من الملك فاروق إلى الحبيب بورقيبة إلى جمال عبد
الناصر، أنور السادات، حسين بن طلال والحسن الثاني.
وبالإضافة إلى
فاترينا الآلات التسجيلية، منها "الماكيرفون الذي شهد تسجيلات عديدة لأم
كلثوم"، وكذلك عقدها الأول مع الإذاعة في عام 1934، هنالك فاترينا تحتوي على
مخطوطات بعض القصائد التي غنّتها "الست"، فنجد مخطوطة أغنية "ليلة
حب" بخط يد الشاعر أحمد شفيق كامل، وكانت قد كُتبت القصيدة على ورق من مكتب
الموسيقار محمد عبد الوهاب، مخطوطة ثانيّة لقصيدة "هذه ليلتي" بقلم
الشاعر اللبنانيّ جورج جرداق ومخطوطة "الحبّ كده" بخط شاعرها بيرم
التونسي.
صور
بلا روحها
حين انتهيت من
التأمل بمحتويات الفاترينات، ذهبت باتجاه "قاعة البانوراما" لمشاهدة عرض
الشرائح، كان العرض بمثابة تجميع لصور أم كلثوم من فترات عمريّة متعددة، على شاشة
بشكل "أمواج بحرية". الصور ليست نادرة بأغلبيتها، فهي متوفرة اليوم عبر
شبكة الإنترنت. الصور مرفقة بموسيقى، وخلال اللحظات الأولى كنت أحاول أن أخمن
الأغنية المصدر لهذه الموسيقى، حيث بالتأكيد من أنها مأخوذة من إحدى المقطوعات
الموسيقيّة. لكن بعدها فوجئت أن موسيقى عرض الشرائح لا علاقة لها بأغاني "أم
كلثوم". مما بدا لي الأمر مزعجًا تمامًا. يعني، الشرائح لم يُرفق لها أي
أغنية "للست"، وحين أرفقت لها الموسيقى، لم تكن أي مقدمة لأي أغنية من
أغانيها. هذا عدا على أن جودة الصّوت كانت سيئة، كأنها تخرج من سماعات جهاز
كمبيوتر قديم. ليه بس كده؟
روح
الست
برغم ما أصابني
من نفور جراء "العرض البانوراميّ"، إلا أن التجوّل بين مقتنيات
"الست" كان مؤثرًا. خاصة، كما ذكرت أعلاه، مقتنياتها الخاصة، المتمثلة
بفساتينها وإكسسواراتها ونظارتها ومنديلها وحقائبها وعودها الخاص وغيرها. ثمة شيء
في تأملها، وبرغم حاجز الزجاج الذي يفصل بين زائر المتحف والمقتنيات، إلا أنه يفتح
شباكًا على "أم كلثوم الإنسانة"، على بيتها وغرفتها والأشياء التي
أحبّتها، تلك التي شاهدنا قسمًا منها بالأبيض والأسود؛ كالفساتين والمنديل
والنظارات، وتلك التي كانت مختبئة في حقائبها أو فوق مكتبها، كالمفكرة التي كتبت
فيها ملاحظات "فرح" من حفلة ما.
خرجت من المتحف
باتجاه الشارع لإيقاف تاكسي، عبرت جسرًا جميلًا فوق النيل، طلبت من سائق التاكسي
أن يأخذني إلى منطقة "وسط البلد". وهناك، في "وسط البلد"
ومناطق عديدة في مصر، ومن البيوت والمقاهي المتنوعة وداخل التاكسي أيضًا، نسمع صوت
"الست" كل الوقت، فهي تعيش مع المصريّين والمصريات بتفاصيل حياتهم
كلّها، صباحاً ومساءً. المصريّون الذي لم يزر عددًا كبيرًا منهم "متحف أم كلثوم"،
ولربما، لا رغبة لديهم في هذه الزيارة، لأنها لا زالت حيّة بينهم، والأحياء لا
يحتاجون إلى متاحف، خاصّة بأن "مقتنياتهم" بأساسها غير ماديّة، وتلوّن
قلوب الناس، تمامًا، كسائق التاكسي الذي قال لي يومًا: "بصّي يا بنتي، هو
اللي حبّش ولا يحبّش، أوّل ما يسمع أم كُلسوم، هَيحبّ على طول".
*هذا المقال كُتب في أيّار/ مايو 2014، ونُشر في موقع "الحياة" الفلسطينيّ.
تعليقات
إرسال تعليق