التخطي إلى المحتوى الرئيسي

ضيف غير مرحب به، غالبًا../ رشا حلوة




رشا حلوة

لم أفهم معنى "أيام الكحرتة" (مصطلح مصريّ) في الرسالة التي أرسلها لي صديقي سامح من موقع "قُل"، حين طلب مني أن أكتب نصًّا ضمن ملف عنها. وبالرغم من ذلك، شعرت أنّ الكلمة "صايعة شوية"، ومن ثم قال لي سامح، مفسّرًا، إنّها تصف مرحلة ما بعد الدراسة الجامعيّة وما قبل الاستقرار في العمل، أيّ عمل كان. مضيفًا: "حتّى النسبيّ منه"، أي من الاستقرار.

من الجدير بالذكر  أنّ عملية قراءة كلمة "استقرار"، وحدها، تخيفني، فكم بالحري لو مارست الحالة فعليًا؟

المهم، سأعود قليلًا إلى فترة الدراسة الجامعيّة؛ في البداية أردت دراسة لقب أول (ليسانس) في الإعلام والصحافة، فلطالما أردت أن أصبح صحافيّة. لا لأني علمت معنى أنّ أكون صحافيّة منذ الطفولة، لكني سمعت في صغري صديقة تقول إنّها تريد أنّ تدرس الصحافة عندما تكبر. عندها، لم أكن أعرف كيف أجيب على سؤال: "شو بدك تصيري لما تكبري؟"، كما لم أحبّ الإجابات النمطيّة، مثل: دكتورة أو محامية أو معلمة مدرسة. فأُعجبت بفكرة أن مهنة الصحافة هي شيء جديد على إجابات الأطفال، وتبنّيتها.

لم أدرس الصحافة والإعلام في الجامعة، ذلك لأن علاماتي المدرسيّة لم تؤهلني لدراستها (والحمدلله أنّها لم تؤهلني، فأنا أومن اليوم بأن أفضل الصحافيّين والصحافيات لم يدرس معظمهم الصحافة أكاديميًا أصلًا.. (الوجه المبتسم ابتسامة كبيرة)). فدرست علم الاجتماع وعلم الإنسان (الأنثروبولوجيا) في حيفا. لم أعلم عندئذ بم سأعمل بعدها، إذ أنني لم أحب "علم الاجتماع" كثيرًا، وبدأت أميل إلى الأنثروبولوجيا، رغم أنّي لم أعرف ماذا سأفعل به في المستقبل، أيضًا..

بالمناسبة، المستقبل أيضًا كلمة مخيفة.

نعود لموضوعنا. خلال فترة الدراسة الجامعيّة، دمجت ما بين الدراسة والعمل، فبدأت بممارسة العمل الصحافي خلال السنة الثانيّة، عبر منصات إعلاميّة فلسطينيّة محليّة مكتوبة؛ مجلات شبابيّة وجرائد. كتبت في مواضعات مختلفة؛ منها، عن الشّباب الفلسطينيّ والطلّبة. ومع مرور الوقت، وفي السّنة الأخيرة من اللقب الأول، أي عام 2007، عرفت من خلال صديقة أنّ "إذاعة الشّمس" في مدينة الناصرة تبحث عن مقدّمي برامج شبابيّة. قمت على الفور بكتابة مقترح لبرنامج إذاعيّ أسبوعيّ حمل اسم "عَ البال". اخترت أنّ يكون برنامجًا ثقافيًّا فنّيًا، يتحدث عن الثقافة والفنّ في فلسطين والمنطقة العربيّة، ويفتح نافذة لمن هم خارج مكاني، فيحكي البرنامج عنه وعن ناسه (لأن البرنامج كان يُبثّ عبر موقع الإنترنت)، ويفتح نافذة أخرى لناسي، فيطلعهم عمّا يدور حولهم وفي محيطهم. عندها قررت، أو أن الحياة حملتني تجاه التخصص في مجال الصحافة الثّقافيّة. وهكذا أجبت على سؤال: "لماذا درست الأنثروبولوجيا؟".

عملي في الإذاعة لم يستمر لأكثر من عامين. وبالتالي، تخصصت في مجال الصّحافة المكتوبة. لكن في فلسطين، الصّحافة فعلاً "بطعميش خبز"، أما تلك "اللي بطعمي شوية خبز" فهي صحافة في مجملها تجارية ومضمونها هش وسطحيّ. وبالتأكيد، ليس ثمّة مساحة أو صفحة أو فقرة أو حتّى سطرًا مخصصًا للصحافة الثّقافيّة، إلا من الجرائد التابعة لأحزاب سياسيّة فلسطينيّة (وهي قلة قليلة). فقررت أنّ أكون صحافيّة "فري لانسر"! وطبعًا، محبّي "الفري لانس" في العالم، بكل مجالاته، يعرفون جيدًا أنّ العمّ "استقرار" لا يزورنا بتاتًا.

تنقلت بين مجالات عملٍ كثيرة. وفي النهاية، رسيت على برّ الدمج ما بين الثقافة والفنّ والإعلام، سواءً من خلال ممارسة مهنة الصحافة بشكل حرّ أو من خلال مجال التنسيق الإعلاميّ لمشاريع ومؤسّسات ثقافيّة فنّية. فإن استقريت على شيء، فعلى أنّني لن أعمل في مجال لا أحبّه. أصلًا، الحياة قصيرة ولا وقت نضيعه على عمل لا نحبّه. صح؟

إلى هنا تمام. الفكرة تكمن بأنّ الدمج ما بين هذين العالمين؛ الثّقافة والإعلام، مربوط بشخصي أنا. بمعنى أن مهنتي أنا هي المعرفة واكتسابها ونشرها، وبالتالي هي ترافقني أينما كُنت على هذه الأرض. يعني: "كلها في قلبي وعقلي وعيوني.. بيرا را را رام".. وأنا بحبّ المشاوير. ومن يحبّ المشاوير يعرف أنّ العمّ "استقرار" ليس ضيف "الرحلة" المفضل وأن السّفر هو المدرسة؛ السّفر بين الأماكن وبين الناس وتجميع قصّصهم، وهي صلب الثّقافة والفنّ. وبالتالي، لم أتوقف عن العمل يومًا.

هذا السّفر بين الناس والأماكن يخفف وطأة الملل والركود، ولوّ بشكل مؤقت. والأهم أنه يركل الاستقرار جانبًا. اليوم، أدرك جيدًا بأنّ الاستقرار الوحيد الذي أعيشه، هو قراري بالبحث الدائم عن الجمال في القصص؛ الجميلة منها والبشعة، وتوثيقها ونشرها، سواء كمقال أو نصّ أو تقرير صحفيّ أو تدوينة قصيرة عبر الفيسبوك أو في سهرة أصدقاء في بار ما. وذلك من أجل البحث عن الأمكنة الجميلة وسط هذا الخراب، ولربما سيساهم هذا البحث والتوثيق، بشكل ما، في بناء عالم أفضل. هذا القرار الذي يمشي خلف بوصلة فضولي نحو تفاصيل كثيرة، قديمة أو حاضرة أو مستقبليّة. وأدرك جيدًا بأن الاستقرار هو نهج الحياة المسافر، الذي يعيش في أحيان كثيرة على سعادة مؤقتة، والمؤقت حيّ وإن كان عابرًا، والاستقرار مصنوع في أحيان كثيرة من لحظات معطوبة، في كلّ مجالات وتفاصيل الحياة.. كلّها. والحياة أقصر من أن نضيعها بالاستقرار.. أقصد ذلك "الاستقرار" ومفهومه اللذان يحاولان فرضه علينا منذ أنّ وصلنا إلى هذه الدُنيا.

(نُشر هذا النصّ ضمن ملف "الكحرتة" في موقع "قُلْ" المصري)





تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

عن "البحر بيضحك ليه؟" ومراحل الحياة..

عكّا، بعدسة: نادر هواري أغنية "البحر بيضحك ليه"، من كلمات الشّاعر نجيب سرور، ألحان وغناء الشّيخ إمام عيسى، هي الأغنية الملائمة لكلّ مراحل الحياة. لا يهم المرحلة إنّ كانت سعيدة أو حزينة، فيها أمل أو خيبة، قلق أو راحة، كلما سمعتها تشعر بأنها تُغنى لك. تحكي معك.. الأغنية لا علاقة لها لمن يعرف البحر أو لا يعرفه، سواء كان البحر قريبًا أو وبعيدًا.. هي قادرة أن تحمل لك مشاهد بصريّة مختلفة كلما سمعتها، تحمل معها وجوهًا عديدة وذكريات.. وكأنك كلما تسمعها تشعر بأن الزّمن توقف. لا يتحرك. كأن حالتك المرافقة لها حين سمعتها قبل 5 أعوام، مع ناس أو من غيرهم، تشبه حالتك حين تعيد سماعها اليوم، لوحدك أو مع آخرين.. والأجمل، بأنك تدرك تمامًا بأن حالتك هي، المرافقة لسماع الأغنية، تمامًا كما الملايين من عشاق الأغنية ذاتها. هي أغنية الطبطبة على الروح.. وحاملة المقولة الوجوديّة الأبديّة: ولسّه جوا القلب أمل.

أحد أطفال "كفرون"؛ يزن أتاسي: "نحنا ما منشبه بعض"

حاورته: رشا حلوة كان ذلك في العام 1990، حين قال له والده: "بدنا نروح مشوار"، لم يخبره إلى أين، "كنت رفيق أبي كتير وأنا وصغير، بروح معه على الشغل، وقالي رايحين مشوار، وبشكل طبيعي ركبنا بالسيارة، وصلنا على مكان قريب من مدرستي وفتنا على بناية، بكتشف بعد ما فتت إننا وصلنا على مكتب دريد لحّام"، يقول الفنان السوري يزن أتاسي في حوار خاص لمجلة "الحياة"، أجريناه عبر السكايب. ويزن أتاسي (1980) هو أيضاً "وسيم"، أحد الأطفال الذين مثلوا أدوار البطولة في فيلم "كفرون" لدريد لحّام، الذي سيتمحور معظم حديثنا عن تجربته فيه، التجربة الشخصية والفنّية لطفل في فيلم سوري، قبل 24 عاماً، كان لها أحد التأثيرات الكبرى على جيل كامل عاش طفولة التسعينيات. " هنالك معرفة بين دريد وأبي"، يقول يزن، "بس أنا انسطلت، لأنه أول مرة بحياتي بشوفه وجهاً لوجه، هني بحكوا وأنا مسحور لأني قاعد قدام غوار الطوشة!". بعدها خرجا من المكان، لا يذكر يزن الحديث الذي دار بين والده ودريد لحّام، ويعتقد أيضاً أنه كان قد قابل أخته نور أتاسي قبله، وهكذا وقع القرا

ريم بنّا.. التهليلة الفلسطينية الباقية

(رشا حلوة ) أذكر أني سمعت الفنانة الفلسطينية ريم بنّا لأول مرةٍ حين كان ربيعي يلامس العشرة أعوام، لا أعلم كيف وصل كاسيت "الحلم" إليّ، أو ربما لا أذكر. كان الوقت صيفًا في عكا، في غرفتي المطلة على البحر. أذكر بأني ناديت على أمي لتشاركني سماع الكاسيت، فسمعنا سويةً "يا ليل ما أطولك" وبكتْ أمي حين أخذتها التهليلة إلى كل الحنين الذي حملته معها منذ أن هُجّر أبوها من قريته الجليلية حتى ساعة انتظار العودة، التي طالت. ترتبط ريم بنّا في روحنا وذائقتنا بالتهليلة الفلسطينية والمورث الشعبي الفلسطيني. فهي أول من أعادت غناء وإحياء التهليلة الفلسطينية واحترفتها حتى يومنا هذا، بما في ذلك ضمن ألبومها الأخير "مواسم البنفسج- أغاني حُب من فلسطين"، والذي يحتوي على تهليلة "أمسى المسا"، المرفوعة إلى اللاجئين الفلسطينيين. بدأت ريم تهتم بالغناء التراثي الفلسطيني حين كانت لا تزال في المدرسة، يوم طُلب منها أن تحفظ أغاني تراثية لمهرجان تراثي في مدرستها، ونصحتها والدتها الشاعرة زهيرة صبّاغ أن تغني التهليلة الفلسطينية التي لم يغنّها أحد بعد. شعرتْ وقتئذٍ أن التهاليل تلائم صوتها