سكنت فترة سنة وشهرين في رام الله، أحببتها عندها، أنا إبنة البحر التي من
الصعب أن تعيش بعيداً عن حضوره الطبيعي كلّ صباح. وبعد فترة، قال لي
صديق:"نيالك يا رشا. إنتِ من عكّا.. وكمان نَفس الهوا بتنقل بينك وبين
بيروت". ابتسمت له وأجبته:"ونفس السمكات!". فكانت جملة هذا الصديق من
الأسباب العديدة والمهمة التي جعلتني أعود إلى مدينتي لأستقر فيها. لأنها كانت
تجسيد ملموس بالهواء لفكرة مليئة بالهوى وهاجس المدينة التي منعها الإستعمار عنك،
لكنها تبعد عن عكّا مسافة 111 كم تقريباً.
حين أنهى جدي سليمان (أبو الزوزو) من دراسته الثانوية في القدس وعاد إلى
عكّا، وقبل أن ينتقل هو وجدتي بدرية (أم الزوزو) إلى حيّ الفاخورة في عكّا
القديمة، سكن لفترة طويلة في شارع "عكّا- بيروت". اليوم، وبعد الاستعمار
الصهيوني لفلسطين، أصبح للشارع إسما آخر.. لا أستخدمه أنا، فأسميه دائماً – وبلا جهد
إضافي-، بإسمه الذي عرفته من أبي وجدي، إسمه الذي يجعل بيروت أقرب في كلّ مرة أقول
لأمي:"أنا وصلت بالتاكسي من حيفا وبستناكي بالمحطة اللي في شارع عكّا-
بيروت".
حين أقول شارع "عكّا- بيروت"، الجملة لا تجعل بيروت أقرب فقط، إنما
تعيد تعريف إنسانيتي من جديد.
أن تكون إنساناً في هذا العالم، وفي فلسطين المحتلة تحديداً، لا يعني أن
تتقبل الواقع كما هو وتزيّنه بأوراق زيتون خضراء وحمامة حرقت بياضها أوساخ القرن
الواحد والعشرين. أن تكون إنساناً هي أن تعيد الإعتبار للأغاني التي وصلتك من
بيروت وتملأ تفاصيل حياتك كلها، أن تعيد الإعتبار إلى الحكايات العادية وحكايات
البطولة ونميمة البارات والمقاهي التي وصلتك بصوت جدتك يوماً ما وتصل غرفتك اليوم من
خلال فضاء غير افتراضي أبداً، تصلك رغم أنهم أوقفوا القطارات التي مرّت من
"رأس الناقورة" ووصلت إلى محطة حيفا. أن تكون إنساناً هي أن لا تبكي
كلما قلت بصوت عالٍ بيت القصيد:"الكمنجات تبكي على وطن ضائع قد يعود"..
بل أن تفك أوتار الكمنجات أحياناً وتمدها جسراً للحالمين بزجاجة بيرا في
"شارع الحمرا".. كي يحققوا الحلم ويصلوا إلى هناك وتبتسم الكمنجات
موسيقى ويعود الوطن.
وهكذا فعلت يا مجد، شكراً.
وهكذا فعلت يا مجد، شكراً.
تعليقات
إرسال تعليق