رشا حلوة
تبدأ القصة مع لفظ كلمة "عَجّل" في لهجتنا الفلسطينية العكّية، حيث يُلفظ حرف جيم الكلمة في اللهجة العكّية كالجيم المصرية، ولا من قرية أو مدينة فلسطينية أخرى تُلفط الجيم في هذه الكملة كما العكّيين، ولفظ الجيم بالمصرية يخص كلمة "عَجَل" لا غير، أي كل باقي الكلمات التي تحتوي على حرف الجيم، يُلفظ الحرف كما هو. إلا أن لفظ جيم الـ "عَجَل" في اللهجة الفلسطينية العكّية هو كما مفتاح لدولاب التاريخ، وارتباط مدينة عكّا بمصر تاريخياً وثقافياً وفنّياً حتى يومنا هذا، وحتى إن كان هذا الارتباط أقل وضوحاً من ما كان عليه قبل حوالي 183 عاماً.. حيث نعيش اليوم في زمن أُغلقت فيه الطرق بين فلسطين ومصر، وأغلقت الطرق البرية والبحرية بين عكّا ومصر.
عكّا على حائط الكرنك المصري
قبل أن نعود إلى عام 1831، علينا التطرق ولو سريعاً إلى الحقبة المصرية، حيث كانت عكّا إحدى المدن التي استهدفتها حملة الملك المصري سنوست الثالث (1878- 1843 ق.م)، إلى أن سقطت المدينة بأيديه ومن ثم تمردت على مصر، مما دفع برعمسيس في عام 1296 ق.م إلى تدميرها، لكن نظراً لأهمية المدينة البحرية، أعاد المصريون بناءها من جديد.. وجعلوها قاعدة حربية لفتوحاتهم في الشرق. (ماهر زهرة، عكّا أميرة البحر، الأسوار 1995)
عكّا الملجأ
حضور ملامح الثقافة المصرية في حياة العكّيين، غير محصورة على التواصل الثقافي والتجاري، بل هي ترتكز بالأساس على وجود العائلات المصرية في عكّا. فيذكر الكاتب والباحث العكّي ذا النون جرّاح في كتابه "بلدي وأهلي وأنا" (1997): "في سنة 1831 أرسل محمد علي باشا ابنه ابراهيم باشا إلى سوريا لاحتلالها. واستولى خلالها على عكا بعد حصار مرير في 27 مايس/ مايو 1832"، وكانت هذه الحملة التي قادها ابراهيم باشا على الشام الكبرى، كانت بذريعة ستة آلاف فلاحاً مصرياً كانوا قد هربوا من التجنيد في مصر ولجأوا إلى فلسطين. يقول ذا النون جرّاح على لسان المؤرخ الروسي "لُوْتسكي" في كتابه "تاريخ الأقطار العربية الحديث": "استخدم محمد علي هرب هؤلاء الستة آلاف فلاح مصري كذريعة للتمرد على السلطان في تركيا. وأصرّ محمد علي، على أن يتنازل السلطان له عن سوريا وفلسطين". ويضيف لُوْتسكي: "وفي هذه اللحظة هرب الستة آلاف مصري من مصر، ووجدوا ملجأ لهم في ممتلكات عبدالله باشا والي عكا. فطلب محمد علي من عبدالله باشا إرجاع الفلاحين إلى وطنهم قسراً. إلا أن عبدالله باشا رفض تسليمهم إلى باشا مصر، وأعلن بأن جميع السكان، بوصفهم رعية لعاهل واحد هو السلطان، يستطيعون العيش في أي مكان كان من الإمبراطورية العثمانية". وهنا أصل الحكاية.. لكن قبل ذلك، يجدر الإشارة إلى أن هذا المقال ليس تاريخياً ولن يسرد تاريخ عكّا عبر 1000 كلمة، بل ما ذكرته أعلاه هو قاعدة أساسية لارتباط المدينة البحرية التي أسسها الكنعانيون بمصر وتاريخها، وكيف لا زال يعيش هذا التاريخ بين أسوار المدينة حتى اليوم وإن كان مهمشاً، لكنه يعيش في أسماء العائلات العكّية، في بعض الكلمات التي تخص اللهجة الفلسطينية العكّية، في ذاكرة الناس وممارستهم الثقافية والفنّية، والتي جميعها هي نتاج تاريخ وناس أحضروا معهم مصر إلى عكّا.
"ولدك رايح على عكّا"
لنعود إلى الفلاحين المصريين الذين هربوا من التجنيد في عهد محمد علي باشا وحصلوا على ملجأ لدى والي عكّا عبد الله باشا، والذي بقي جزء كبير منهم في عكّا ولم يتركها، وقصتهم التي عُرفت، حلت لغزاً كبيراً في أسمائهم المصرية وطباعهم المصرية وبعض كلمات في لهجتهم من أصل مصري. (ذا النون جرّاح). بالإضافة إلى الفلاحين المصريين الذين بقيوا في عكّا، كان قد بقي قسم من الجنود والضباط المصريين وعائلاتهم في المدينة البحرية بعد انسحاب إبراهيم باشا من فلسطين. فمن العائلات العكّية والتي لا زالت في عكّا؛ المصري (وهنالك عائلتيّ المصري بلا صلة قرابة بينهما)، حيث كان "المصري" هو اللقب ومن ثم تحوّل إلى إسم العائلة، البلبسي، الديماسي، الجرّاح (الحجاز- مصر- فلسطين)، الأشقر، الشقيري، الشمالي والذي يعود أصلهم إلى الفيوم، قنديل، الشافعي، فودة، وغيرها من العائلات العكّية.
كيفك خيّا؟
بما يتعلق باللهجة الفلسطينية العكّية، وكما ذكرت مطلع المقال فيما يخلص الكلمة "عَجَلْ"، تشكل بعض الكلمات والأحرف رابطاً ما بين عكّا ومصر لاحتوائها على ملامح للهجة المصرية، وللعكّيين كلمات خاصة مثلاً كلمة "خيّا"، أي أخ عند المناداة، يشير ذا النون جرّاح في كتابه بأنها تحريف لكلمة "خُويَهْ" لدى المصريين. من الكلمات أيضاً التي كانت تستخدم أكثر في الماضي، مثل الكلمة "ضارباها" وكذلك "ماسكاها" وهي نفس الكلمات المصرية.
مصر المدرسة
الكثير من العكّيين ذهبوا إلى مصر للتعلم والدراسة، سواء ذهبوا إلى جامع الأزهر الشريف بعدما أكملوا دراستهم في المدرسة الأحمدية، أو أقبلوا على مدرستها الابتدائية، من هؤلاء الطلبة كان الشيخ أسعد الشقيري، مفتي الفيلق الرابع، والذي طلب الدارسة في مصر حوالي عام 1875 ودخل "رواق الشوام" وبعد أن أنهى دروسه في الأزهر عاد إلى عكّا. من الطلبة أيضاً الشيخ عبدالله الجزار، القاضي الشرعي ومفتي مدينة عكّا (1855- 1939)، اسمه الجزار لم يكن له أي علاقة بأحمد باشا الجزار، إنما حصل عليه لكونه منتمياً إلى جامع الجزار في عكّا.
أما على المستوى الفنّي، فكان قد درس الفنان الحيفاوي – العكّي صدقي شكري الموسيقى في "معهد الاتحاد الموسيقي" في القاهرة، التي وصلها عن طريق القطار منطلقاً من محطة حيفا، وكان قد امتحنه عند وصوله الفنان المصري ومدير المعهد إبراهيم شفيق، وبعد قبوله إلى المعهد، تتلمذ صدقي شكري على يد الفنان ومعلم العود جمعة محمد علي. خلال فترة دراسته في القاهرة، لم يتعلم صدقي شكري فقط الموسيقى إنما تعلم كلّ التفاصيل الفنّية التي تحيط في الموسيقى، بما في ذلك إنشاء الفرق الموسيقية وحضورها على خشبات المسارح وحتى زيّ الموسيقيين وإضاءة المسرح. وبعد أن أنهى دراسته بإمتياز، وبعد محاولات من قبل أساتذته في المعهد بأن ينضم إلى الهيئة التدريسية ويبقى في مصر حيث المستقبل الفنّي، إلا أن هذه المحاولات باءت بالفشل أمام رغبة الموسيقي الفلسطيني بأن يعود إلى بلده. وحين عاد إليها، كان أول ما أقدم عليه هو تشكيل أول فرقة موسيقية له والتحضير لحفلة موسيقية كبيرة تقام في سينما الأهلي في عكّا يوم الثامن من يناير 1947، وصادف أن شهر يناير العكّي وقبل يومين فقط من حفلة صدقي شكري وفرقته، سوف يستضيف أيضاً كلّ من يوسف وهبي يوم السادس من يناير 1947 وفريد الأطرش يوم السابع من يناير 1947.
يقول مازن الكردي في كتابه "حياة فنان- سيرة حياة الموسيقار صدقي شكري" (1995) بوصفه لحفلة صدقي شكري في سينما الأهلي:"كانت هذه أول مرة يشاهد فيها الجمهور الفلسطيني مثل هذه الألعاب بالأضواء الملونة، وقد تعلمها صدقي من مشاهداته في كازينو بديعة وغيره في القاهرة"، ويضيف الكردي: "كانت هذه أول حفلة لطاقات محلية فلسطينية في المنطقة وربما في البلاد بأسرها، فقد كان إحياء الحفلات عادة مقصوراً على الفرق المصرية التي كانت تجوب مدن فلسطين وتقيم الحفلات المختلفة فيها". قبل الاحتلال الصهيوني عام 1948، كان في عكّا ثلاث صالات سينما؛ سينما الأهلي (خارج أسوار عكّا)، سينما البرج وسينما رويال التي تقع عند أقصى جنوب- غرب عكّا، كانت تعرض الصالات الأفلام العربية والأجنبية، وبالأخص الأفلام المصرية، وكانت تقدم سينما رويال أيضاً الحفلات الغنائية، حيث كانت إحدى نجمات هذه الحفلات هي صاحبة أغنية "يا ترى نسي ليه"، المطربة المصرية فتحية أحمد والتي لقبت بـ "مطربة القطرين" لسفرها بين مصر وبلاد الشام، وكانت لعكّا حصة كبيرة من هذه الزيارات الغنائية.
أما على المستوى الفنّي، فكان قد درس الفنان الحيفاوي – العكّي صدقي شكري الموسيقى في "معهد الاتحاد الموسيقي" في القاهرة، التي وصلها عن طريق القطار منطلقاً من محطة حيفا، وكان قد امتحنه عند وصوله الفنان المصري ومدير المعهد إبراهيم شفيق، وبعد قبوله إلى المعهد، تتلمذ صدقي شكري على يد الفنان ومعلم العود جمعة محمد علي. خلال فترة دراسته في القاهرة، لم يتعلم صدقي شكري فقط الموسيقى إنما تعلم كلّ التفاصيل الفنّية التي تحيط في الموسيقى، بما في ذلك إنشاء الفرق الموسيقية وحضورها على خشبات المسارح وحتى زيّ الموسيقيين وإضاءة المسرح. وبعد أن أنهى دراسته بإمتياز، وبعد محاولات من قبل أساتذته في المعهد بأن ينضم إلى الهيئة التدريسية ويبقى في مصر حيث المستقبل الفنّي، إلا أن هذه المحاولات باءت بالفشل أمام رغبة الموسيقي الفلسطيني بأن يعود إلى بلده. وحين عاد إليها، كان أول ما أقدم عليه هو تشكيل أول فرقة موسيقية له والتحضير لحفلة موسيقية كبيرة تقام في سينما الأهلي في عكّا يوم الثامن من يناير 1947، وصادف أن شهر يناير العكّي وقبل يومين فقط من حفلة صدقي شكري وفرقته، سوف يستضيف أيضاً كلّ من يوسف وهبي يوم السادس من يناير 1947 وفريد الأطرش يوم السابع من يناير 1947.
يقول مازن الكردي في كتابه "حياة فنان- سيرة حياة الموسيقار صدقي شكري" (1995) بوصفه لحفلة صدقي شكري في سينما الأهلي:"كانت هذه أول مرة يشاهد فيها الجمهور الفلسطيني مثل هذه الألعاب بالأضواء الملونة، وقد تعلمها صدقي من مشاهداته في كازينو بديعة وغيره في القاهرة"، ويضيف الكردي: "كانت هذه أول حفلة لطاقات محلية فلسطينية في المنطقة وربما في البلاد بأسرها، فقد كان إحياء الحفلات عادة مقصوراً على الفرق المصرية التي كانت تجوب مدن فلسطين وتقيم الحفلات المختلفة فيها". قبل الاحتلال الصهيوني عام 1948، كان في عكّا ثلاث صالات سينما؛ سينما الأهلي (خارج أسوار عكّا)، سينما البرج وسينما رويال التي تقع عند أقصى جنوب- غرب عكّا، كانت تعرض الصالات الأفلام العربية والأجنبية، وبالأخص الأفلام المصرية، وكانت تقدم سينما رويال أيضاً الحفلات الغنائية، حيث كانت إحدى نجمات هذه الحفلات هي صاحبة أغنية "يا ترى نسي ليه"، المطربة المصرية فتحية أحمد والتي لقبت بـ "مطربة القطرين" لسفرها بين مصر وبلاد الشام، وكانت لعكّا حصة كبيرة من هذه الزيارات الغنائية.
مسافة السكة بين مصر وعكّا
لا زالت بعض المكتبات العكّية البيتية مليئة بالمجلات والجرائد والكتب كانت تصل إلى عكّا من مصر، منها جريدة "المقطم" اليومية السياسية (1888-1952) ومجلة "الرسالة" لمؤسسها أحمد حسن الزيات وكتب لطه حسين، توفيق الحكيم، أحمد شوقي وغيرهم.. سواء كانت تصل عن طريق البريد أو الوكلاء، فيُحكى عن شخص يدعى أسد بياعة من عكّا كان يستورد الكتب ويضعها في مكتبته. كما أهمية التواصل الثقافي، كان هنالك تواصل تجاري لا يقل أهمية بين عكّا ومصر، وبشكل خاص بين ميناء عكّا وميناء الإسكندرية، وبرغم أن حركة السفن بين المينائين توقفت، وللأدق تم إيقافها بعد الاستعمار الصهيوني على فلسطين، إلا أن هذا لم يمسّ الروح المصرية الموروثة التي تعيش في عكّا الفلسطينية، أو تلك الروح المكتسبة مع الوقت، سواء كان العكي ينتمي إلى عائلة ذات جذور مصرية أو لا، فجيم "العجل" لا زالت مصرية وعلى ألسنة كلّ العكّيين، وخيّا لا زالت مفتاح للتعرف إلى هوية العكّي أينما كان في العالم، وثقافة مقاهي الأراجيل حيّة ومنتشرة أكثر من أي مدينة أو قرية فلسطينية، والأهم هو حضور الذاكرة التي لم تؤثر عليها أي مرحلة تاريخية استعمارية في فلسطين وعكّا، حضورها في السؤال الأول الذي يستقبلني حين ألتقي بعكّي أو عكّية من عائلات مصرية الأصل، بعد عودتي من زيارة إلى مصر: "بتعرفي إنه أصلنا من مصر خيّتا؟".. وعَ الأصل دوَّر.
تعليقات
إرسال تعليق