التخطي إلى المحتوى الرئيسي

عكا لا تنسى أبناءها، ولا هم ينسونها



رشا حلوة


أعود إلى عكا.
ست سنوات وأنا بعيدة من قصصها اليومية، أعيش بمعزل عن تفاصيل حياتها صباحاً ومساءً.خلال تلك السنوات، اقتصرت علاقتي بها على نهاية الأسبوع.اليوم أعود إليها نهائياً، محمّلة بكل ما لا تعرفه عني وما لم تعشه معي.أعود ويتملّكني هاجس بأنها لن تغفر لي كيف أدرت ظهري لها ذات يوم.

لكنها، كعادتها، تفاجئني، تلك المدينة الحبلى دائماً بالمفاجآت. فاجأتني بخيوط الشمس التي دثّرتني بها يوم عُدت عند الفجر من مكان بعيد. كان في شروقها احتضان لي، بالرغم من أني عُدت بهيئة لا تشبهني، لكنها مدينة لا تعرف التخلي، لكنها مدينة تعرف أبناءها...

أدخل إليها من المدخل الشرقي، تنهيدة تسبقني حين أشم نسمة البحر الأولى التي تصدم أنفي البارد.كأنها لوحة فنية أُتقِنَ رسمها قبل عقود كثيرة بألوان غير قابلة للمحو، فبقيت الصورة كما هي بجمالٍ يزداد كلما تعتّق.

هكذا نحن، نولد على حافة البحر، فنتقن الحديث معه منذ البداية.

نهرب من المدرسة إلى السور الغربي* نبحث عن مكان لا يرانا فيه أحد، أيادينا محملة ببعض الأرغفة الساخنة وعلبة حمّص من «أبو الياس»، نجلس بجوار البحر مسافة انزلاق غير مقصود وغرق لا عودة منه.

نبتسم للسمك المقبل إلى الشاطئ، قبل أن يقع حباً في شباك أحد الصيادين.
نقفز من «الطاقة»، تلك التي تمنحنا سر العمادة العكاوية.

أعود لأستمع إلى صدى الحكايات المشعشعة في أزقّتها، محملاً بأصوات كلّ من رحلوا عنها، هذا الصدى الذي يعلو صوته يوماً بعد يوم، بعدما تضاعفت مهمته، إذ حكم عليه بمحاربة النسيان إلى الأبد، وبحماية ذاكرة المدينة من احتراف المستجدّين تغيير الأسماء لخلق جغرافيا جديدة لهم تطمس تاريخها وتزوّره.

أعود إلى شارع «بيروت»، هذا الشارع الذي احتضن جدي يوم ترك قريته الجليلية، وأصبح يحمل اليوم اسما آخر، غريباً عن جدي وعنه: «ديرخ هأربعاه». أعود إلى أسماء عكا الأولى وإلى اسمها الوحيد.

أعود لأقف مع البحر ورفاقي، نحميها من مشاهد تخاف من استرجاعها عن قوارب محمّلة بأرغفة لم تنته النساء من خبزها، ومثقلة ببكاء أطفال نسوا لُعبهم عند مداخل البيوت.

أعود إلى عكا كي لا أرحّل عنها مرة أخرى.

صحيفة "الأخبار اللبنانية"
عدد الثلاثاء ٢٨ نيسان ٢٠٠٩

http://www.al-akhbar.com/ar/node/132090

تعليقات

  1. نعود لنبدأ الرحلة !

    ... تحياتي البحرية

    ردحذف
  2. ولكم في العودة قصاص
    ولها -عكا- في العودة حياة

    تحياتي

    ردحذف
  3. انا وعم بلف بالمدونات
    لفتتني مدونتك
    يمكن لاني كمان عكاوية
    عكا البلد الي بحلم بيوم ما ادخلها
    بس مع مليون علامة استفهام كيف؟؟؟؟

    انا زي صاحبتك الي قلتي عنها لاجئة بلبنان وانا هيك كمان بس بنختلف انو هي بلندن وانا بالخليج
    كلا غربة مابتفرق

    ارق تحية الك
    ومبسوطة بمدونتك شمية ريحة عكا

    ردحذف
  4. AnGeL
    سعيدة بأن مدونتي حملتك إلى عكا، رغم الحدود المتراكمة منذ ستين عامًا.
    لكن عكا، تبقى أجمل حين تُرى.
    كوني على أمل عزيزتي
    أعتذر لتأخري بالردّ على تعليقك
    كلّ الحب

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

عن "البحر بيضحك ليه؟" ومراحل الحياة..

عكّا، بعدسة: نادر هواري أغنية "البحر بيضحك ليه"، من كلمات الشّاعر نجيب سرور، ألحان وغناء الشّيخ إمام عيسى، هي الأغنية الملائمة لكلّ مراحل الحياة. لا يهم المرحلة إنّ كانت سعيدة أو حزينة، فيها أمل أو خيبة، قلق أو راحة، كلما سمعتها تشعر بأنها تُغنى لك. تحكي معك.. الأغنية لا علاقة لها لمن يعرف البحر أو لا يعرفه، سواء كان البحر قريبًا أو وبعيدًا.. هي قادرة أن تحمل لك مشاهد بصريّة مختلفة كلما سمعتها، تحمل معها وجوهًا عديدة وذكريات.. وكأنك كلما تسمعها تشعر بأن الزّمن توقف. لا يتحرك. كأن حالتك المرافقة لها حين سمعتها قبل 5 أعوام، مع ناس أو من غيرهم، تشبه حالتك حين تعيد سماعها اليوم، لوحدك أو مع آخرين.. والأجمل، بأنك تدرك تمامًا بأن حالتك هي، المرافقة لسماع الأغنية، تمامًا كما الملايين من عشاق الأغنية ذاتها. هي أغنية الطبطبة على الروح.. وحاملة المقولة الوجوديّة الأبديّة: ولسّه جوا القلب أمل.

أحد أطفال "كفرون"؛ يزن أتاسي: "نحنا ما منشبه بعض"

حاورته: رشا حلوة كان ذلك في العام 1990، حين قال له والده: "بدنا نروح مشوار"، لم يخبره إلى أين، "كنت رفيق أبي كتير وأنا وصغير، بروح معه على الشغل، وقالي رايحين مشوار، وبشكل طبيعي ركبنا بالسيارة، وصلنا على مكان قريب من مدرستي وفتنا على بناية، بكتشف بعد ما فتت إننا وصلنا على مكتب دريد لحّام"، يقول الفنان السوري يزن أتاسي في حوار خاص لمجلة "الحياة"، أجريناه عبر السكايب. ويزن أتاسي (1980) هو أيضاً "وسيم"، أحد الأطفال الذين مثلوا أدوار البطولة في فيلم "كفرون" لدريد لحّام، الذي سيتمحور معظم حديثنا عن تجربته فيه، التجربة الشخصية والفنّية لطفل في فيلم سوري، قبل 24 عاماً، كان لها أحد التأثيرات الكبرى على جيل كامل عاش طفولة التسعينيات. " هنالك معرفة بين دريد وأبي"، يقول يزن، "بس أنا انسطلت، لأنه أول مرة بحياتي بشوفه وجهاً لوجه، هني بحكوا وأنا مسحور لأني قاعد قدام غوار الطوشة!". بعدها خرجا من المكان، لا يذكر يزن الحديث الذي دار بين والده ودريد لحّام، ويعتقد أيضاً أنه كان قد قابل أخته نور أتاسي قبله، وهكذا وقع القرا

ريم بنّا.. التهليلة الفلسطينية الباقية

(رشا حلوة ) أذكر أني سمعت الفنانة الفلسطينية ريم بنّا لأول مرةٍ حين كان ربيعي يلامس العشرة أعوام، لا أعلم كيف وصل كاسيت "الحلم" إليّ، أو ربما لا أذكر. كان الوقت صيفًا في عكا، في غرفتي المطلة على البحر. أذكر بأني ناديت على أمي لتشاركني سماع الكاسيت، فسمعنا سويةً "يا ليل ما أطولك" وبكتْ أمي حين أخذتها التهليلة إلى كل الحنين الذي حملته معها منذ أن هُجّر أبوها من قريته الجليلية حتى ساعة انتظار العودة، التي طالت. ترتبط ريم بنّا في روحنا وذائقتنا بالتهليلة الفلسطينية والمورث الشعبي الفلسطيني. فهي أول من أعادت غناء وإحياء التهليلة الفلسطينية واحترفتها حتى يومنا هذا، بما في ذلك ضمن ألبومها الأخير "مواسم البنفسج- أغاني حُب من فلسطين"، والذي يحتوي على تهليلة "أمسى المسا"، المرفوعة إلى اللاجئين الفلسطينيين. بدأت ريم تهتم بالغناء التراثي الفلسطيني حين كانت لا تزال في المدرسة، يوم طُلب منها أن تحفظ أغاني تراثية لمهرجان تراثي في مدرستها، ونصحتها والدتها الشاعرة زهيرة صبّاغ أن تغني التهليلة الفلسطينية التي لم يغنّها أحد بعد. شعرتْ وقتئذٍ أن التهاليل تلائم صوتها